لنستفتح صباحنا بقراءة ما تطمئن به النفوس أولاً قبل قراءة الواقعة. فقد ذكر المولى عز وجل «الويل» عدة مرات في القرآن الكريم، ومنها ما ورد في سورة الجاثية: «وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم» (الجاثية: 7)، وفي سورة المرسلات «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» (إذ ذُكرت عدة مرات في سورة المرسلات بدءاً من الآية 15).

ويأتي الويل في مجمله، بمعاني: حلول الشرّ، الحزن، الهلاك، المشقّة من العذاب. إلا أن ما جاء في الأخبار والروايات أن الويل كذلك هو اسمٌ لوادٍ مهيب في نار جهنم، لو أن إنساناً رُمي فيه، وسيرمي فيه بعضهم لا محالة وإلا لما أوجده رب العباد لبعض الأشرار من الناس، فلا يصل إلى قعره إلا بعد أربعين خريفاً، أو أربعين سنة مما تعدون. أما شقيقه (وادي سقر)، فقد فسره الإمام الصادق (ع) عن أبي عبدالله (ع): «إن في جهنم لوادياً للمتكبرين يقال له: سقر، شكى إلى الله عزّ وجلّ شدة حره وسأل الله عزّ وجلّ أن يأذن له أن يتنفس، فتنفس فأحرق جهنم». كما أضاف الصادق (ع) قراءة مستقبلية للأوضاع السياسية فيما يحدث في الساحة العربية اليوم بقوله بناءً على تفسير الويل: «ويلٌ لطغاة العرب من أمر اقترب، قلت: جُعلت فداك، كم مع القائم من العرب؟ قال: نفرٌ يسيرٌ، قلت: والله إنّ من يصف هذا الأمر منهم لكثير! قال: لابد للناس من أن يُمحّصوا ويُميّزوا ويُغربلوا ويُستخرج في الغربال خلقٌ كثير».

نورد هذه المقدمة لمعرفة الويل الذي وعد الله به المتكبرين والطغاة على مر العصور في الآخرة؛ لكن هناك ويل في الدنيا قبل الآخرة يقع فيه كثير ممن لا يعون الدروس جيداً ولا يقرأون التاريخ وقصصه ذات العبرة بعيون فاحصة معتقدين بأن الزمن لهم وحدهم فقط دون غيرهم. وحكاية الويل من حيث هو حلول الشرّ، الحزن، الهلاك، ذاك الذي وقع فيه جعفر بعد النعيم الذي ترفل به وظن أنه لن يزول عنه. تجعلنا نقول وما أدراكم ما ويل جعفر؟

قال عنه المؤرخ ابن خلكان: «كان من علو القدر، ونفاذ الأمر وبعد المهمة، وعظم المحل وجلالة المنزلة، عند هارون الرشيد بحالة انفرد بها ولم يشارك فيها. فقد بلغ من أمر جعفر أن الرشيد اتخذ له ثوباً له زيقان يُلبسه هو ولم يكن له عنه صبر، وكانت عباسة أخت الرشيد أعز امرأة عليه فكان متى غابت أو غاب جعفر تنغص مجلسه».

أظنكم عرفتم مطلع الحكاية وصاحبها، نعم إنه جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي الوزير الأول لهارون بن محمد بن عبدالله العباسي الملقب بالرشيد وهو ابن امرأة اسمها الخيزران بنت عطاء من جرش اليمن وكان المهدي قد أخذها من بيت حاكم (طبرستان) الثائر ضد الدولة.

تذكر مصادر التاريخ، ما كادت الخلافة تؤول إلى هارون العباسي حتى استدعى كاتبه يحيى بن خالد بن برمك وعهد إليه بالأمر كله قائلاً: «يا أبه! أنت أجلستني هذا المجلس ببركة رأيك وحُسن تدبيرك وقد قلدتك الرعية وأخرجته من عنقي إليك فاحكم بما ترى واستعمل من شئت وأعزل من رأيت وأسقط من رأيت فإني غير ناظر معك في شيء ...». ويقال إن هارون قد رضع من أمهات يحيى وفضل البرمكيان عندما نشأ في منطقة (الري).

وبهذا صارت الكتب تنفذ باسم يحيى وليس باسم الخليفة هارون، وكان يحيى من سداد الرأي والتدبير والسيرة بحيث تمكن مع ابنيه الفضل وجعفر من قيادة الدولة بل الإمبراطورية العباسية سبع عشرة سنة بين أعوام (170-187 هـ).

وما يخص جعفر بالذات فقد كان من البلغاء وكان من الظرف والتأنق بحيث اختص بمنادمة هارون دوماً وملازمته. ولم يبلغ أحد من الوزراء منزلته التي بلغها عند الرشيد، فقد تنازل له هارون عن أهم أمور الدولة، كالنظر في المظالم ونقل ديوان الخاتم من أخيه إليه، وأمر بكتابة اسمه على الدراهم، وجعل له ديوان البريد وديوان الطراز، وهذا الأمر لم يتنازل عنه الخلفاء من قبل لأحد، كما عهد إليه هارون بتربية ابنه المأمون. حتى لقد خاف يحيى أبوجعفر على ابنه مغبة هذه الصداقة الشخصية الزائدة فنصح ابنه بأن «ينهنه من اندفاعه نحوها». ومهما كنت قريباً من أهل السلطة فتقلب الزمان بأهله لا يستقر أبداً، وهذا ما جعل هارون العباسي ينكل بجعفر وجميع أسرة البرامكة دون تمييز.

المؤرخ ابن خلدون يعدد أسباباً لمأساة البرامكة ونكبتهم منها: استبداد البرامكة بأمر الدولة - وعلو اسمهم على اسم الخليفة - استيلاؤهم على الضياع والأموال - اصطناع الأقارب والمحاسيب في الوظائف - سعاية الحساد والوشاة بهم عند الخليفة.

وقد اختلف المؤرخون في سبب مصرع جعفر تحديداً، لكن الثابت أنه في ليلة السبت سلخ المحرم - أو مستهل صفر - سنة سبع وثمانين ومئة هـ، 29 يناير 803 م، أمر الخليفة هارون مسروراً الخادم في جماعة من الجند باعتقال جعفر. فقال له: يا ياسر، سررتني بإقبالك وسؤتني بدخولك من غير إذن، فقال الخادم: الأمر أكبر من ذلك، قد أمرني أمير المؤمنين بكذا وكذا، فأقبل جعفر يقبل قدمي ياسر وقال: دعني أدخل وأوصي، قال لا سبيل إلى الدخول، ولكن أوصى بما شئت، قال: لي عليك حق، ولا تقدر على مكافأتي إلا الساعة، قال: تجدني سريعاً إلا فيما يخالف أمير المؤمنين، قال: فارجع وأعلمه بقتلي، فإن ندم كانت حياتي على يدك، وإلا أنفذت أمره فيّ، قال: لا أقدر، قال: فأسير معك إلى مضربه وأسمع كلامه ومراجعتك، فإن أصر فعلت، قال: أما هذا فنعم، فأخرجه إخراجاً عنيفاً وهو يقوده، حتى أتى به قصر الخليفة فلما سمع حسه قال له هارون: ما وراءك؟ فذكر له قول جعفر، فقال له كلاماً مهيناً وأضاف، والله لئن راجعتني لأقدمنك قبله، فرجع مسروراً فحبس جعفر وقيده بقيد حمار! ثم ضرب عنقه ولوحشية هذا الخادم المطيع فقد جاء برأس جعفر لهارون فأمر الأخير، كما يذكر الواقدي، بصلبه على الجسر ببغداد، بأن جعل رأسه على الجسر وفي الجانب الآخر جسده. ووجه الرشيد جنداً إلى أبيه يحيى فأحاطوا به وبالبرامكة جميعًا ومواليهم وسلب أموالهم وأملاكهم وعقاراتهم ونودي: ألا لا أمان لمن آوى برمكياً بعد اليوم. وهكذا، في ساعات قليلة انتهت أسطورة البرامكة وزالت دولتهم. وبعد أن قتل الرشيد جعفراً أمر بعائلته وأهله فسجنهم، وفي السجن قال أحد إخوة جعفر لأبيه: «يا أبتِ، لِمَ بعد الأمر والنهي والأموال صرنا إلى هذا؟ فقال له: يا بني دعوة مظلوم غفلنا عنها لم يغفل الله عنها».

وقال الشاعر دعبل الخزاعي يرثي جعفراً ووالده يحيى الذي سجنه هارون:

لمل رأيت السيف صبح جعفراً

ونادى منادي للخليفة في يحيى

بكيت على الدنيا وأيقنت إنما

قصارى الفتى فيها مفارقة الدنيا

وما هي إلا دولة بعد دولة

تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى

إذا نزلت هذا منازل رفعة من الملك

حطت ذا إلى غاية سفلى

ولنا في قصص الغابرين حكمة وعظة للدرس قبل نفاذ الأمر المحتم، فهل من متذكر؟