يستوحي هذا الحديث عنوانه من مقولة للشاعر البريطاني العظيم جون ميلتون، في كتابه «الفردوس المفقود»: «من يقتل الكتاب يقتل الكلمة، ومن يقتل الكلمة يقتل الإنسان». جالت هذه المقولة في الخاطر، أثناء مراجعة تقرير لمنظمة اليونسكو، استند في بعض معلوماته، إلى تقارير التنمية البشرية التابعة للأمم المتحدة، وتناولت مسألة تدني مستوى القراءة العامة، في البلدان العربية.
أوضح تقرير اليونسكو أن الوقت الذي يستهلكه الطفل العربي في القراءة الحرة، لا يتجاوز ست دقائق في العام. والإشارة هنا لا تحتسب أوقات قراءة المناهج التعليمية المدرسية، والمواد المتعلقة بها. ومعنى ذلك أن الأطفال العرب لا يقرأون حتى كتالوجات ألعابهم الخاصة ومقتنياتهم الإلكترونية.
أما ما يخصصه الفرد العربي العادي للقراءة، وفقاً لتقارير التنمية البشرية، فلا يتجاوز العشر دقائق سنوياً، وهو أمر مثير للأسى والدهشة، حين نعلم أن الإنسان في الدول الغربية يقضي بالقراءة الحرة، ستاً وثلاثين ساعة في السنة، بما يقارب 200 ضعف من استهلاك المواطن العربي. وتصدر مراكز النشر العربية، كتاباً واحداً فقط لكل 350 ألف مواطن عربي، في حين أن النسبة في أوروبا هي كتاب واحد لكل 15 ألف أوروبي، بما يزيد على الـ23 ضعفاً. ويقرأ كل 20 فرداً عربياً كتاباً واحداً، مقارنة بـ7 كتب لكل بريطاني، و11 كتاباً لكل أميركي.
ويمكن أن نستوعب بعضاً من أسباب هذه الأزمة إذا علمنا نسبة استفحال الأمية بالبلدان العربية، حيث تتجاوز الـ40 في المئة من الراشدين العرب، مقاربة مع شعوب أوروبية وشعوب أخرى في العالم، احتفلت بالقضاء التام على الأمية. وتواجهنا هنا مشكلة مفاهيمية، في تحديد من هو الأمي، ذلك أن التحديد هنا واسع ومرتبك، يشمل كل من يجيد القراءة والكتابة، بغض النظر عن مستواه العلمي. في حين تطبق بعض الدوائر العلمية، هذا التوصيف على الذين لا يجيدون التعامل بالحاسوب.
وحين يتعلق الأمر بترجمة الكتب للعربية، باختلاف اهتماماتها وتخصصاتها، فإن العرب لا يترجمون سوى 20 في المئة مما يترجم اليونانيون وحدهم من الكتب، مع غياب شبه كامل لترجمات الكتب العلمية والفلسفية، إلى العربية. وتعاني دور النشر التي تهتم بموضوع الترجمة من ضعف القدرات العلمية واللغوية وشح المال ومن ضعف إقبال القراء على شراء إصداراتها. وفي الغالب، لا تقدم لها الحكومات العربية أي دعم لمواصلة أداء رسالتها في نشر الثقافة والعلم.
وإذا ما اتجهنا إلى موضوع الاهتمام بالأطفال، براعم المستقبل والثروة الحقيقية للأمم، فإن ما تصدره المكتبة العربية من كتب للأطفال لا يتجاوز الـ400 كتاب، مقابل 13260 كتاباً للطفل الأميركي، و5838 كتاباً للطفل البريطاني، و2118 كتاباً للطفل الفرنسي، و1485 كتاباً للطفل الروسي.
في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، استمعت إلى محاضرة تعرضت، ضمن ما تناولته لمستوى استهلاك الورق بالوطن العربي، وأشار المحاضر إلى أن ما تستهلكه الدول العربية جمعاء من الورق، لا يصل إلى استهلاك «إسرائيل» وحدها. واعتقدت أن الأمر مبالغ فيه. لكن إحصاءات العام 1996 أي بعد ستة عشر عاماً على سماع تلك المحاضرة، أكدت أن كل ما تطبعه الدول العربية لا يصل إلى نصف ما تنشره «إسرائيل» وحدها، مع الفوارق الفلكية في تعداد السكان بين العرب و «الإسرائيليين».
لن نتعرض لما تنفقه البلدان العربية من ناتجها القومي على البحث العلمي، فالأرقام المتوفرة، تؤكد أن مستقبل التنمية في بلداننا أمام كارثة حقيقية بكل المقاييس، وأن معدل ما يخصص في موازنات الدول العربية لمصلحة البحث العربي، يأتي في أدنى المراتب، قياساً لمعظم دول العالم. كما لن نتحدث عن معدل نشر الكتب في البلدان العربية، وعن عدد النسخ التي تصدر من كل كتاب ينشر. فالواقع كارثي بكل المقاييس.
ونكتشف حجم المأساة، إذا علمنا أن مركزاً علمياً يحتل وضعاً مرموقاً ومتميزاً في مجال البحوث، هو مركز دراسات الوحدة العربية، يطبع 2000 نسخة فقط من أي كتاب يصدره، بغض النظر عن أهمية الباحث ومكانته العلمية. بمعنى أن كاتباً معروفاً على المستوى العربي، كالمرحوم محمد عابد الجابري يمكن أن يعاد طبع كتابه في الأقصى عشر مرات، بما في ذلك موسوعته الشهيرة عن العقل العربي. بمعنى أن نسخ الكتاب التي نفدت لما يقرب من عقدين لم تتجاوز العشرين ألف نسخة في أمة يبلغ مواطنوها 300 مليون نسمة. هذا الوضع يبدو مأساوياً ومحبطاً حين يقارن بالمليون نسخة التي تصدر عن مؤسسة «أحسن كتاب» الأميركية، والتي تناول أحدها كيف تعاملت بربارا بوش، زوجة الرئيس الأميركي بوش الأب مع كلبها. ومذكرات أخرى لممثلات وعارضات أزياء ينسحب عليها ما ينسحب على ما نشرته بربارا بوش.
كيف يمكن أن يكون العرب في الخلف من جميع الأمم في أمر القراءة، ودينهم وقرآنهم يعلمانهم أنه في البدء كانت الكلمة... وكتب التاريخ والتفسير تشرح لنا أن أول وحي نزل على الرسول الأكرم هو سورة اقرأ؟ ولم تكن صدفة دعوة الإسلام لطلب العلم ولو كان في الصين. ومع ذلك كله فإننا أمة لا تقرأ. والتقارير الأممية التي أشرنا لبعضها، تثير فينا القشعريرة والحزن. وتكشف لنا أسباب تخلفنا وعدم قدرتنا على اللحاق بشعوب الأرض، عندما يتعلق الأمر بالنهضة والتقدم وبناء هياكل الدولة المدنية الحديثة بكل تشعباتها وتجلياتها.
ولم يجانب موشي ديان وزير الحرب الإسرائيلي في حرب الستة أيام في يونيو/ حزيران العام 1967 الحقيقة حين قال لقد هزمنا العرب، واحتل جيشنا أجزاء كبيرة من مصر وسورية والأردن، لأن شعوبها لا تقرأ.
كيف نخوض معاركنا في الداخل والخارج، إن لم نتعلم قوانين التاريخ ومفرداته، ونقرأ عن تجارب الآخرين الذين سبقونا في مضمار النهوض والتنمية والتقدم؟ وكيف لأمتنا أن تنتج فلاسفة ومفكرين وشعراء وروائيين ومبدعين عظاماً، حين تنأى شعوبنا عن الكتاب، وتكون فريسة لثقافات الاستهلاك، ولأفكار ونظريات فسدت بفعل تقادم الزمن عليها. وكيف لأخلاقنا أن تستقيم وتتعزز، ولشخصيتنا أن تصقل، فتتهذب نفوسنا، ونرتقي إلى عالم فوار متحرك نكون جديرين بالانتساب له؟ وكيف للمجتمع أن يتطور من غير مثقفين يعكفون على قراءة الكتاب، والتزود من معين العلم؟
هل لنا أن نغمد سياطنا، ونتوقف عند هذا الحد، من جلد الذات. متجهين من خلال التفكيك والتشريح لفتح بوابات الأمل، وليتسلل إلى أوطاننا وميض ضوء وزاد للرحلة، يجعلنا جديرين بالحياة في عصر الثورة الرقمية، واللوحات المحمولة، وعصر الانتقال إلى الدولة المدنية، بكل تجلياتها وتشعباتها؟
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3534 - الخميس 10 مايو 2012م الموافق 19 جمادى الآخرة 1433هـ