العدد 3521 - الجمعة 27 أبريل 2012م الموافق 06 جمادى الآخرة 1433هـ

الوفيات... أهي مجرَّد إحصائيات؟

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

ظاهرة التعامل مع الأعداد والإحصائيات في المشهد النضالي العربي الحالي تستحق التمعُّن فيها، وككل الإحصائيات فإنها تظهر أشياء وتخفي أشياء أخرى، دعنا نمعن النظر في بعض من وجوه تلك الظاهرة.

أولاَ: هناك قول ينسب لرئيس الاتحاد السوفياتي السابق جوزيف ستالين بأن «وفاة» واحدة هي مأساة، أما مليون وفاة فإنها مجرَّد إحصاء». يظهر أن الكثير من المسئولين الكبار في الأقطار العربية التي وصلها الربيع العربي هم من أتباع تلك الحكمة الستالينية. ففي بداية الحراكات والانتفاضات ما أن يعلن عن وفاة الشهيد الأول على أيدي قوات الأمن حتى يظهر كبار القادة على شاشات التلفزيون ليعبِّروا عن اعتذارهم وشديد أسفهم لوقوع مأساة الوفاة الفردية ويقدِّموا أحرَّ التعازي لعائلة الفقيد ولعموم الشعب. هكذا تكون الوفاة الأولى مأساة تستوجب الشَّجب والوعد بإجراء التحقيق والمساءلة والقصاص من الجاني.

لكن ما إن تمر الأيام وتتَّسع الانتفاضات وتزداد حدَّة الاصطدامات بين قوى الأمن والغاضبين من أبناء الشعب المتظاهرين في شوارع المدن والقرى العربية حتى يزداد عدد الوفيات وتصبح الوفيات كما أكد ستالين مجرد إحصائيات. عند ذلك، وبصورة ملفتة للنظر، يتوقف المسئولون عن الظهور على الشاشات لتقديم الاعتذار أو التعبير عن الأسى، وتصبح ظاهرة موت العشرات حدثاً مألوفاً في مشهد كبير بالغ التعقيد والأبعاد، وبالتالي لا تستحق ذرف دمعةٍ أخرى.

ثانياً: والغريب أن ذلك الموت المفاجئ لضمير وحساسية مشاعر الكثيرين من السَّاسة الكبار يصيب الآخرين بعدواه، وعلى رأسهم غالبية وسائل الإعلام. فخبر الوفاة الأولى يفصل كل جوانبها حتى يثير مشاعر الحزن والأسى على الضحية في النفس الإنسانية وحتى يحرِّك الغضب والسَّخط على الجلادين في ضمير المشاهد أو المستمع الإنساني. أما أخبار عشرات ومئات الوفيات التي تحدث بعد ذلك فتُجمل سريعاً وبنبرة روتينية حيادية باردة في تعبيرات إحصائية لا تثير النفس ولا تحرِّك الضمير ولكنها تذكِّرنا بوصف الكاتب الأسكتلندي أندرو لانغ لأحدهم بأنه «يستعمل الإحصائيات كما يستعمل الرجل السكران أعمدة النور في الشوارع: للوقوف على قدميه وليس لإنارة طريقه». فجأةً يصبح موت العشرات وجرح المئات وسجن الألوف مشهداً إحصائياً يومياً عابراً، بل ومملاً. هنا يتوقف الحديث عن الأفراد ليبدأ الحديث عن الأعداد والنِّسب والمعدَّلات والإحصائيات وكل أشكال الكلمات الحيادية الباهتة الشَّاردة التي لا تبقى في الذِّهن أكثر من بضع سويعات أو بضع دقائق، ثم تنسى.

ثالثاً: هذا التعامل الإحصائي لشهداء وضحايا ومنكوبي الثورات والحراكات العربية ولعائلاتهم المكلومة لا يتناغم فقط مع الصورة الشيطانية البشعة التي رسمها ستالين في مقولته القاسية، وإنما يساهم أيضاً في وضع أقنعة وأردية تحجب عن الشعوب العربية وهج ونور وتألُّق الحراك العربي الذي عمَّ الوطن العربي بشتَّى صوره وظلاله. وهو ظلمٌ لمن قدَّموا حياتهم فداءً لشعوبهم وأوطانهم الصغيرة ووطنهم العربي الكبير، ولمن صبروا على التعذيب والسُّجون، ولمن خسروا مصادر أرزاقهم وأقوات عائلاتهم.

لكن العدل يقتضي العكس، إذ المطلوب هو أن ترسخ تلك الصور بتفاصيلها ورمزيتها ودروسها ومآسي بطولاتها في وجدان وذاكرة أجيال المستقبل. قصص هؤلاء يجب أن تصبح حكايات تسرد، توثيقات تدرس، صوراً تشاهد، أناشيد وأغاني تصدح في الأمكنة والأزمنة، ودموعاً تسكب لمن عُذِّب أو اغتصب أو أهين وظلم وروِّع.

رابعاً: ما أكثر ما نقرأ أو نسمع من كتابات وأحاديث التحليلات والتفلسف لظاهرة الربيع الذى تعيشه الأمة، لكن كل ذلك سيبقى أقوالاً وسفسطة باهتة إن لم يكن مواكباً للحديث عن الفعل البطولي المبهر الذي يحفر في الواقع ويغيِّره. الفعل الذي يقوم به شباب هذه الأمة عبر الأرض العربية كلها، باسم الأمة كلها. هؤلاء الشباب وأسرهم المساندة لهم، المحروقة القلوب، الصابرة... هؤلاء - يجب أن نتعامل معهم بالروح التي عبَّر عنها الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر في قوله بأنَّ «عبادة الأبطال تكون الأقوى حيث توجد أقل الاعتبارات لحريّة الإنسان»، وبالطبع، فعبر قرون وقرون من تاريخ هذه الأمة، تعامل الطُّغاة المستبدون مع الحرية الإنسانية بأبشع وأرذل صور الازدراء والانتهاك.

نعم... قادة السياسة والإعلام والفكر والفنون وغيرهم يجب أن يغرفوا لسنين طويلة من نهر بطولات الربيع العربي. إذ إن الأمة التي لا تمتلئ ذاكرتها بصور البطولات المبهرة تصبح ذاكرتها كذاكرة الخراف التي تساق، طابوراً بعد طابور، إلى المسالخ.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 3521 - الجمعة 27 أبريل 2012م الموافق 06 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 17 | 1:50 م

      بوركت

      كلام منطقي و عقلاني و اتمني الاستفاده من هذا الدرس يا مسؤلين.. شكرا لأبداع د. فخرو

    • زائر 12 | 4:33 ص

      أسود ضراغمة .. فهل للهزيمة من سبيل

      لنابليون بونارت العديد من المقولات، منها ما يصور جيش من النعاج بامرة اسد، وجيش من الأسود بامرة نعجة.
      فالاسد قد يأكل النعاج وحدة تلو الاخرى، أما الحالة الثانية فستتنازع الاسود على النعجة.
      فما السبيل؟

    • زائر 11 | 4:23 ص

      عدد الوفيات من البشرية منذ آدم الى يوم الدين..

      أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ..
      وليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا [ الجن: 28]
      سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [فصلت:53[
      إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون [الشعراء :227]
      يبدو أننا غير معتبرين في ما نزل، فلما نحصي من رحل ؟
      هل هو لهو أم علم?

    • زائر 10 | 3:12 ص

      عبدالرحمن

      خي رقم 4 :

      حدث في البحرين أو يحدث ؟

    • زائر 8 | 2:22 ص

      هذا ماحدث

      حدث في البحرين

    • زائر 7 | 2:19 ص

      موت الضمير اكثر ألما من موت الجسم والجسد

      الإنسان كامل بضميره وجسده والضمير لدى كل الامم اهم من الجسد ففي كل الاعراف حتى اللادينية منها تجعل اعتبارا اكبر للضمير من الجسد.
      وموت الضمير اخطر من موت الجسد فإذا مات الانسان وهو على مبادئه فنرى صيته يبقى يدرس على مدى قرون بينما من يموت ضميره رأسا يرحل الى مزابل التاريخ
      ويصبح سبة ولعنة حتى على اهله ومن حوله
      الضمير هو النبي الداخلي الفطري في الانسان
      فإذا مات بقي الانسان بلا قيمة روحية

    • زائر 6 | 2:02 ص

      دكتور

      متى تعود يا دكتور إلى وزارة التربية و تنتشلها من ظلامتها ...

    • زائر 4 | 1:25 ص

      مقال رائع

      أشكرك يا دكتور على هذا المقال الذي يوصف واقع سياسينا

    • زائر 3 | 12:10 ص

      شكرا فخرو

      مقال رائع ومن هنا سخر لنا الله جمعية الوفاق الوطني الاسلامية لتكن البديل

    • زائر 2 | 11:38 م

      صدقت

      فاين تقرير لجنة اول شهيد في البحرين

    • زائر 1 | 10:48 م

      اوادم كلانعام همها علفها تعيش لتاكل

      دكتور واذا ناس ما تحب تطلع عن منضومه الخراف المساقه للمسلخ متى ما احتاج الغنام او الراعي لاكلها فان رقابها جاهزه لاستقبال السكين وهذي هي عبوديه البهائم وعقليتها التي لا تؤمن بلحريه طاب صباحك دكتور....ديهي حر

اقرأ ايضاً