بقدرة قادر، وافقت الولايات المتحدة علنا على العرض الذي سبق أن تقدمت به ليبيا لطي ملف تفجير طائرة «البانام» فوق لوكربي والقاضي بتعويض عائلات الضحايا. وبقدرة قادر ايضا، ستدافع بريطانيا - التي لعبت طوال اكثر من سنتين دور الوسيط بين الجماهيرية الليبية والإدارة الأميركية - عن الاقتراح الذي قدمته إلى مجلس الأمن تمهيدا لرفع العقوبات نهائيا عن هذا البلد.
ومن غير المستبعد ايضا أن تقف كل من لندن وواشنطن الى جانب طرابلس الغرب في خلافها المحتمل مع فرنسا حيال اعادة النظر في قيمة التعويضات التي دفعتها ليبيا إلى أسر ضحايا طائرة «اليوتا».
كان الكثير من المراقبين يرون ان ما يحصل اليوم هو بمثابة تحول مفاجىء نوعي فرضته معطيات جديدة تكونت لدى أميركا، وخصوصا بعد احتلال العراق، والقناعة بان تدفق نفط هذا البلد وبالتالي مردوده لن يكون في المدى القصير خلافا لكل الحسابات الا ان المطلعين على مسار هذا الملف من سياسيين أوروبيين ومكاتب محاماة وتحكيم عالمية مكلفة بالتفاوض قونونيا وجزائيا وماليا بهذه القضية يعتبرون ان الاتفاق الذي تم بين المفاوضين الليبيين والأميركيين نتيجة جولات عدة جرت في العاصمة البريطانية وايضا في جزيرة قبرص، لم يكن ينتظر سوى التوقيت والاخراج الملائمين، كذلك ازالة ما تبقى من عقبات صغيرة تتعلق بمطالب بعض أسر الضحايا التي كانت ترفض قبض ثمن «أرواح» أبنائها وتشدد على ملاحقة بعض المسئولين الليبيين. لكن مصالح الولايات المتحدة الأميركية الاستراتيجية وضعت حدا في النهاية لهذا الجدل.
فالتصريحات التي صدرت عشية تقديم المشروع البريطاني من قبل مسئولين أميركيين في طليعتهم الدبلوماسي السابق ادوارد وولكر الذي شكك في نوايا ليبيا في التحول من «دولة مارقة» الى «دولة صديقة» أو التي ادلى بها السيناتور ادوارد كيندي الذي حذر فيها من نوايا القذافي غير السليمة التي يمكن ان تؤدي الى «سخرية من الحرب على الارهاب» أظهرت جهل هؤلاء وغيرهم من النواب، «بالاتفاق - الاطار» السري الذي تم منذ اشهر بين الطرفين المعنيين بالأزمة، الذي توج بحضور ومشاركة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشئون المغرب العربي والشرق الأوسط ويليام بيرنز. وتكشف المعلومات بهذا الصدد ان الفريقين توصلا الى صيغة تضمن اعطاء الاولوية للشركات الأميركية النفطية منها خصوصا بالتنقيب والاستخراج، على حساب الشركات الأوروبية العملاقة التي استفادت من سنوات العقوبات الاقتصادية المفروضة على ليبيا، لتعزيز وجودها وزيادة استثماراتها في حقول تزيد احتياطاتها المؤكدة على 35 بليون برميل، ناهيك عما هو واعد في مجال الغاز الذي لم يتم حتى الآن استغلاله بالشكل المطلوب. وتنص صيغة الاتفاق بحسب مصدر ليبي مسئول، على اندماج ليبيا بشكل فعال في مشروع الشراكة الأميركي - المغاربي (الذي كان يعرف بمبادرة «أيزنستان») الذي يستهدف تقوية النفوذ الاميركي واختراقاته في القارة الافريقية من جهة ويلعب دورا في مواجهة مشروع برشلونة للشراكة اليورو - متوسطي، ذلك على رغم توقيع كل من تونس والمغرب والجزائر عليه.
الجماهيرية السباقة دائما
كما في الثورية كذلك في البراغماتية أيضا، ذهب العقيد معمر القذافي الى أقصى الحدود، فمنذ «سبتمبر/ ايلول 2001، وليبيا تسلف الإدارة الأميركية أكثر بكثير من المواقف. فاللوائح بأسماء المرتبطين بتنظيم القاعدة من ليبيين وسودانيين ومصريين وتشاديين ومغاربة... الخ التي قدمتها الاجهزة الليبية المختصة إلى نظيراتها الأميركية فاقت كل التوقعات لناحية دقة المعلومات من ناحية، والمساعدة اللوجستية على الأرض من ناحية ثانية. فقد جند الزعيم الليبي كل شبكاته داخليا وخارجيا للعب هذا الدور الذي بحسب وعد بريطاني، سيكافأ عليه بسخاء من قبل الرئيس جورج بوش شخصيا، بحيث تعود ليبيا على حصان ابيض إلى الأسرة الدولية، وفي افريقيا، اذ للجماهيرية نفوذ لا يستهان به، داخل الحركات والزاويات الاسلامية عبر «جمعية الدعوة الاسلامية الليبية» التي يرأسها محمد أحمد الشريف (المقبول أميركيا) ساعدت طرابلس الغرب ميدانيا جميع فرق التحقيق الاميركيين التي كانت تتتبع خيوط القاعدة في القارة السوداء.
وخلال الفترة نفسها، عمدت ليبيا الى تقريب المجموعات المؤيدة لأميركا بداخلها الى مواقع القرار.. فكان بنتيجة ذلك ان عينت منذ سنتين شكري غانم في منصب وزير الاقتصاد، ورفعته هذا العام الى رتبة رئيس للوزراء كي يشرف على عملية الانفتاح الاقتصادي تمهيدا لإدخال الجماهيرية في اقتصاد السوق. فشكري غانم، غير البعيد عن الاوساط النفطية الأميركية، اشرف بين 1993 و2001 على إدارة قسم البحوث في منظمة الاوبك، تحديدا في أمانتها العامة بفيينا اذ نسج علاقات وطيدة مع سيف الاسلام معمر القذافي الذي كان يتابع حينها دراسته في احدى جامعاتها. كما اوصلت وزير النفط السابق عبدالله سالم البدري الذي عمل في السبعينات إلى منتصف الثمانينات الى جانب وزير الخارجية الراحل عمر المنتصر، في شركة «الواحات» التي كانت تتعامل مع الشركات الأميركية العاملة في ليبيا، الى موقع الرجل الثاني في البروتوكول ما يعني انه بات يشكل جزءا من الحلقة الضيقة التي تحيط بالعقيد معمر القذافي. ضمن التوجه نفسه لتلبية المطالب والشروط الاميركية، قلمت القيادة الليبية، من اظافر اللجان الثورية، وأبعدت بعض رموز المخابرات التي تحملهم واشنطن المسئولية في كثير من الاعمال التي لها علاقة بالارهاب في السابق، أو لناحية التحالف والتنسيق مع أعدائها في مجالات ودول كثيرة.
ومن المبادرات الاخرى تعبيرا عن حسن النوايا قامت ليبيا بخطوات لطمأنة أميركا، وخصوصا في مجال الانفتاح الاقتصادي، فخلال وجوده في وزارة الاقتصاد قام شكري غانم بمحاولة لاعادة صوغ سياسات هذا البلد الاقتصادية بحيث اعلن تحرير التجارة واخراجها من أيدي المنشآت والتشاركيات التي كانت تتحكم بمساراتهم اللجان الشعبية وتحتكر اعمالها في الاستيراد والتصدير، وسعى الى توحيد سعر الصرف بهدف القضاء على السوق الموازية التي على رغم هذا الاجراء لاتزال قوية قادرة على المقاومة بفضل وقوف مراكز القوى وراءها، كما اقنع العقيد القذافي بمهاجمة القطاع العام، وتشجيع القطاع الخاص على لعب دور أكثر حيوية، واعطائه الضمانات التي يطلبها. ومع مجيئه اليوم على رأس الحكومة سارع شكري غانم إلى إعلان نية الدولة الشروع في تطوير القطاع المصرفي وفتح الابواب امام نشوء مصارف مختلطة تكون للأجانب فيها حصة، ومشروع انشاء بورصة طرابلس الغرب للأوراق المالية، والتحضير لتخصيص عدد من شركات القطاع العام اضافة إلى السماح للمستثمرين المحليين بدخول قطاع النفط والبتروكيماويات على ان تتم الاستعانة بخبراء أجانب، لتحديث الصناعة النفطية، رسالة فهمتها الإدارة الأميركية ورحبت بها شركاتها النفطية وخصوصا في ولاية تكساس.
الا ان الأهم يكمن حقيقة في سياق المواقف التي سلّفتها ليبيا لأميركا، اللقاءات المنتظمة والسرية التي كانت تتم في خيم العقيد القذافي في كل من سرت وطرابلس الغرب بينه وبين الوفود الممثلة للشركات النفطية الأميركية التي كانت تستغل حقول الواحات والمتمثلة في كل من: ماراثون، ايراداهيس، كونكو واوكسي بموجب عقد وقع في العام 1986 وينتهي مفعوله بنهاية 2003. ولقد أفهم الزعيم الليبي ضيوفه بانه ايا تكن الظروف حتى ولو تأخر حل مشكلة لوكربي فانه لن يعطي أبدا أية تراخيص لشركات أوروبية منافسة للعمل في هذه الحقول. كما لا ينبغي التقليل هنا من الدور الذي قام به المساعد لوزير الخارجية الاميركي السابق لشئون افريقيا شيستر كروكر الذي يرأس حاليا مؤسسة «اتلانتيك كادنيل» المدعومة من شركات النفط الأميركية بهدف تسويق زعامة اميركا في العالم. ففي تقرير اعدته مؤسسته بعنوان: «العلاقات الليبية الأميركية: حول ضمانات اعادة الالتزام»، دعا كروكر ادارة جورج بوش إلى اخراج ليبيا من خانة الدول المصنفة «المارقة» لسببين: كي تستمر هذه الأخيرة في السير قدما في مساعدة اميركا على محاربة الارهاب، وثانيا لتشجيعها على فتح ابواب قطاع النفط والغاز والبنيات التحتية واعادة تجديد اسطولها الجوي امام الشركات الأميركية... بالاضافة إلى كسبها حليفا مستقبليا في مواجهاتها السياسية وايضا وهو الاهم ان تصبح صديقا وفيا لواشنطن داخل العالم العربي، اذ بدأت تسجل تراجعا بعد احتلال العراق، هذا من دون التقليل من أهمية نفوذ الجماهيرية في افريقيا. ويضيف التقرير ان القيادة الليبية وعلى رأسها معمر القذافي اعطت حتى الآن ضمانات كافية نحو التحول الجاري على قدم وساق على الاصعدة كافة. وعن استمرار ليبيا في الحصول على اسلحة دمار شامل اكد كروكر ان التقارير التي تقدمها بعض الجهات بعيدة كل البعد عن الحقيقة وهو على استعداد لاثبات ذلك.
على رغم الرهانات المستعجلة التي بدأت تتحدث عن عودة سريعة للشركات الأميركية، بمعنى آخر للوجود الاستثماري والمالي والتجاري الأميركي، فإن الواقع على الأرض لا يؤكد حتى الآن ذلك، فأوساط المال والاعمال الأميركيون لن يدخلوا بقوة قبل الانتهاء من عمليات الاستكشاف التي ستشمل كل شيء بدءا من القوانين الاستثمارية مرورا بتحديث القطاع المصرفي والمالي، والتأكد من تحرير التجارة وعدم تدخل اللجان الشعبية الثورية فيها حتى ولو أعلنت الحكومة رسميا ذلك لن يكون هنالك تغيير فوري في هذه المرحلة على الأقل. اي حتى منتصف 2004 بحسب خبراء بروكسيل قبل ان تعيد ليبيا صوغ سياساتها الاقتصادية وفق الشروط الاميركية... لأن الانفتاح المطلوب لن يكون على ما يبدو سهلا لأن انعكاساته على شريحة مهمة من المجتمع الليبي، المصنفة بذات الدخل المحدود والمدعوم من الدولة والمتعارف على تسميتها منذ فترة بالطبقة الوسطى للنظام الجماهيري (الموظفين الحكوميين والمدرسين ورجال الشرطة والعسكريين والمتفرغين في اللجان) ستكون قاسية، وبالتالي يمكن ان تنشأ مقاومة سلبية للاجراءات يمكن ان تتخذ اشكالا مختلفة تصل الى حد المواجهات أمر لم يعتد عليه النظام الليبي، فالخطوات الخجولة التي اتخدها شكري غانم في السنتين الماضيتين عندما كان وزيرا للاقتصاد افرزت تذمرا لذلك فمن الصعب بمكان اليوم ان تلجأ الحكومة برفع سياسات الدعم بالنسبة الى المواد الغذائية والطاقة والخدمات الخاصة بالتعليم والصحة، تماشيا مع الاقتراحات التي قدمها خبراء صندوق النقد الدولي الذين زاروا الجماهيرية منذ أشهر ورفعوا تقريرهم الى المسئولين عن الملف الليبي في الإدارة الأميركية... أما المشكلة الثانية التي ستواجهها الحكومة الليبية فتتلخص في تنويع مصادر الانتاج والتقليل من الاعتماد على النفط فاذا كانت ليبيا قد حققت بعض التقدم في هذا المجال بفعل العقوبات الاقتصادية عبر تطوير القطاع الزراعي وبعض الصناعات الخفيفة، فان هذه المعضلة لاتزال قائمة... الا ان المهمة الأكثر صعوبة تكمن في نهاية المطاف في كيفية ازاحة القطاع العام بعد ان أرسى قواعده ما يزيد على الثلاثين عاما فنظرية تحويله الى قطاع «رأسمالي شعبي» كما ذكر العقيد القذافي في خطابه الاخير هي مسألة غير دقيقة بحسب رأي الاميركيين كما ان الشروع في عملية تخصيص بعض منشآته تحتاج بالضرورة إلى توافر شروط تجمع بين الارادة الاقتصادية والسياسية الحقيقية والقانونية والاخلاقية.
في هذا السياق يؤكد احد خبراء البنك الدولي انه «لا يكفي ان يجزم سيف الاسلام القذافي في احدى مقابلاته الصحافية بان القرار بالانفتاح الاقتصادي محسوم ودخول اقتصاد السوق قرار لا رجعة فيه، وانشاء بورصة للاوراق المالية قريب، لكي تصبح هذه الامور حقيقية ويأتي المستثمرون من كل حدب وصوب للعمل في «جمهورية الكتاب الاخضر»
العدد 352 - السبت 23 أغسطس 2003م الموافق 24 جمادى الآخرة 1424هـ