لن تستطيع وسائل التواصل الاجتماعي «facebook» أو «twitter» أو «googl plus» وغيرها من مواقع الكلام أو الصوت أو الصورة؛ وخصوصاً الهاتف الجوّال، تعويض خسارة وشرْخ طال هذا الكوكب عبر ندرة التواصل المباشر بالروح والجسد والانفعالات وتعبيرات الفرح والخوف والخيبة والتفاؤل وحتى اليأس. الحضور المباشر والتواصل يوصل إليك قيمة لا تستطيع كل تلك الوسائط والوسائل أن تبلغ معشار إمكانات التوصيل، حين تكون وجهاً لوجه وعلى التصاق بالانفعالات والتعبيرات التي برّرت تلك الوسائط عدم جدواها، ولا تناسب إيقاع الزمن والوقت، في مشروعات تفكيك غير مباشرة نجد صورها وشواهدها على امتداد البصر.
باتت تلك الوسائط والوسائل مثل الوسواس الخنّاس الذي يُقنعنا بأداء الدور - وهماً - على أكمل وجه، حين تتواصل مع أمك... أبيك... أخيك ... أختك... عائلتك... أصدقائك عبر ذلك الوسيط، وربما لا يفصل بينك وبينهم غير شارع كلفة عبوره والوصول إليهم لن تترتب عليه فواتير آخر الشهر التي لن تخلو من تلاعب وابتزاز واستباحة لعرقك وعنائك من قبل الشركات المتعهدة لتلك الوسائط والوسائل.
الهاتف الجوّال عبر الصوت والصورة لن يوصل إليك حال الدفء. لن يوصل إليك حال انفعال أو ملامح أمّك ومن تحب وأنت ممعن في الهجْر والنأي بدعوى إيقاع الزمن واللهاث وراء رغيف لن يكبر ويتعملق مهما كبرت معاناتك في محاولة اللحاق به؛ كمحاولة اللحاق بإطار في منحدر.
خدمة الصوت والصورة في تواصلك مع من تحب لن تفي بما يعتمل في أنفسها من عتاب أو غيظ أحياناً؛ وربما سأم من هذا النكران المتعدّد الذي أتاحت له تلك الوسائط والوسائل أن يتمدّد بشكل أخطبوطي، ووفرتْ له مظلة غير أخلاقية البتة بنشوء هذه القطيعة شبه المعمّمة في مجتمعاتنا التي عرفت بتواصلها وعرفانها بالحقوق حدّ النظر إليها باعتبارها نموذجاً من خلال عين الآخر في الطرف والجانب الآخر من العالم؛ فيما هي اليوم تذهب في مواقف انتحار واستهداف لتلك الأواصر والروابط التي لم تعد ذات معنى.
نوهم أنفسنا أن الزمن تغير، ومن المفترض أنه تغير بما ينفع الناس ويعمّ صِلاتهم وعلاقاتهم ويسهّل امتداد تلك الصِلات والعلاقات وتعميمها، وأستدرك هنا، الزمن لا يملك خيار أن يتغّير. نحن الذين نعمد إلى حقْنه في وريده بمصل التغيير إلى الأفضل إذا أردنا وبمصل التخلف والغياب إذا أردنا في موقف آخر. الموقف الأول باجتهادنا وبحثنا واشتغالنا بما يسهّل ويريح ويرفّه الحياة وبشرها على هذا الكوكب؛ لكن مثل تلك الحقْنة لم ينجُ من استحقاقاتها أيضاً بظهور صور من النكران والإحجام والتواصل الفوقي والسطحي والعابر والسريع؛ تماماً كما هو الحال مع الوجبات السريعة التي تعجّل بآجالنا كما تعجّل مثل تلك العلاقات المُفْرغة من حسّها بموتنا في قلوب وأرواح من كنّا نوهمهم بحبنا لهم.
فقط أشير إلى قصة عابرة قد تبدو لا معنى لها في عصر لاهث في إيقاعه وبشره؛ وربما لأن بيننا وبينها امتداداً من عقود طويلة، والاستشهاد بها يعد ضرباً من الهروب والإسقاط الذي لا معنى له؛ لكن مادمنا في مساحة التواصل المفتقد في زمن يعجّ بوسائل التواصل التي بلغت ما يشبه ذروتها؛ ثمة قيمة تختزلها تلك القصة ربما ضمن منحى وتوجه آخر؛ لكنه ليس بمعزل عن القيمة ذاتها التي ذهب إليها هذا المقال.
«وي» شاب صيني أراد أن يتعلم اللغة الإيطالية ولكنه لم يكن يملك أجر السفر؛ فسافر إليها مشياً على الأقدام مخترقاً بذلك البلاد الآتية: سيام، بورما، الهند، التبت، إيران، العراق، ثم اليونان وقد قطع هذه المسافة في عامين.
الشاهد تفصل بينه وبين الـ «facebook» أو «twitter» أو «googl plus» وغيرها من مواقع الكلام أو الصوت أو الصورة عقود متعددة من الزمن؛ لكن العلاقات تلك لا تحتاج إلى أن تكون مبتزة ورهناً لتقدّم زمن تتراجع فيه العلاقات وتنحدر فيه النفوس والأمزجة.
بإعادة مونتاج المغزى من رحلة شاقة كتلك لا أثر لوسائل اتصال تختزل مسافة «شي» إلى المعرفة وتعلم لغة، نصل إلى حاجتنا الضرورية والمصيرية في تعلمنا لغة روح التواصل والعمل على نسف قيم طارئة تحاول الدفع بنا دفعاً نحو إدخالنا في أكثر من مساحة نفي. نفي أرواحنا التي جُبلتْ على أن الوصول إلى العالم صلة للأرواح كي لا تذبل وتذوي في أكثر من غربة نحن أول صنّاعها ومخترعيها.
لا نتحدث عبر تلك القصة عن أجر سفر إلى التواصل مع من تحب ويعنيك وجوده في الحياة فحسب. لا نتحدث عن قطع حدود دول للوصول. نتحدث عن إغراء كريه فاسد أعاد علاقاتنا الإنسانية إلى ما يشبه حال التوحّد قبل تشكّل المجتمعات.
أعيد «سدْح» السؤال: هل الوقت، الزمن تغيّر؟ هل يملك الزمن ذلك الخيار؟ ماذا عنّا نحن الذين من المفترض أن نشكّله ونأخذ به إلى حيث نريد للحياة والوقت أن يكونا عليه تبعاً لمؤشرات قفزاتنا التي نحققها. المسألة تكمن في أن كثيراً مما نقف عليه اكتشافاً لرفاهية الحياة ورفاهيتنا يرتد علينا بخيارنا في ارتداد البؤس الأخلاقي وانفصام عرى علاقاتنا.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3512 - الأربعاء 18 أبريل 2012م الموافق 26 جمادى الأولى 1433هـ
أحسنت
التقنية لا تجلب السعادة،
ولا المال يجعل الحياة أسهل،
إن ما يجلب السعادة ويجعل الحياة أسهل،
ليس سوى تصافي القلوب، والنية الخالصة،
من الحقد،
والحسد،
والطائفية،
والرغبة في إقصاء الآخر،
ورميه في البحر،
أو خنقه كالحشرات،
دعونا نصفّي قلوبنا من عفنها وصدئها،
لتكون الحياة أجمل