هل هي ندرة الفواصل أم وفرتها؟ الأوطان التي تحتكم إلى جهّالها وسيئي أخلاقها وتتوّجهم حكماء على مصيرها لا تكون فاقدة للبوصلة فحسب؛ بل هي فاقدة للحضور أساساً.
والعناق الذي يراد له أن يكون ضرورياً كي تكتمل الصورة قبل بثها لوسائل الإعلام الكونية، لن تنقذ أوطاناً من براميل انفجار تنتظرها بفعل حمقى وأغبياء ووصوليين. مثل ذلك العناق لا يختلف كثيراً عن خنق ضحية أو خنق من تحب. لا فرق.
الدول التي تمسك بزمام كل شيء؛ باستثناء زمام شعوبها تمسك بزمام الصورة وتحويرها والصوت وتحريفه والاعترافات المسلوقة على الهواء مباشرة، وكما تريد؛ لكنها لن تستطيع امتلاك الحقيقة بكل ذلك. للحقيقة شرط وشأن وشروط أخرى. أهمها انحياز الإنسان إلى فطرة أخلاقية فيه لن يكون من دونها إنساناً. أن يكون شجاعاً حتى في إدانة نفسه وليس في إدانة من يختصم معهم. أقول لا يمكن للحقيقة أن تخضع لدولة لا تراعي أبسط معايير الاختلاف كي تفهم الجدوى من الاتفاق.
يسأم الواحد منا حين يذكّر نفسه قبل أن يذكّر الذين يساهمون في الاستهانة بالإنسان والاستهانة بالأوطان في الدرجة الأولى عبر تلك الممارسة. وحين أقدّم الإنسان على الأوطان فلأنه صانعها وهو القادر على أن يقدّمها في صورة مشرّفة إلى العالم؛ أو أن يقدّمها في صورة هي على النقيض من ذلك. صورة مسخ يشوه حضوره وقيمته.
ومثلما يعرّي الخريف الأشجار، يعرّي الخريف أيضاً سياسات لا تأبه سوى بربيعها وإن كان اصطناعياً يمكن الوقوف على تفاصيل الصُفْرة في الوجوه والوجوم الذي لا يبدو أن أحداً سيقف دونه أو عنده.
ثم إن الحروب ضدّ الشعوب في الداخل أكثر كلفة من أي حرب أخرى تُفرض أو تُضطر إلى خوضها دولة ما. في حروب الداخل لا خطوط تماس يمكن أن تُرى. الجبهات مفتوحة على الجنون والتوغل حد التصفيات وحد إفراغ المناعة من جسد الأمة؛ أو هكذا يراد لها أن تكون. إنها حرب تعمد إلى منجز الأمة عبر إنسانها فتعمل على نفيه وتغييبه وإهانته.
في الحروب التي تُضطر إليها الأمم خارج حدودها ثمة خطوط تماس وثمة طرف مواجهة معلوم يمكن تشخيصه، وفي الداخل يأتي دور التعمية والتورية ومن ورائهما إعلام رسمي فاقد لقيمته في قناعات كثيرين. إعلام فاقد لطرْفه فلا يحتاج إلى أن يرتد إليه كي يستعرض إمكاناته في الفصل! إعلام برسْم التوجيه ولا علاقة له بالإعلام بل هو ضالع في التجهيل والتغييب والإظلام. هو مثل «مطْراش» أي ساعي بريد أو حامل رسالة، عليه أن يكون حافظة للعناوين ولو كان أميّاً لا يجيد قراءة طريق عبَرَها لأكثر من مرة.
في الحروب والصراعات والاحتقانات الداخلية من ينتصر على من؟ المنتصر فيها خاسر لا محالة. والذين هم في المباشر من الخسارة ستتضاعف خسارتهم مع مرور الوقت. لا رابح في حروب وصراعات واحتقانات الداخل. حروب الخارج على رغم مآسيها التي تحت مجهر العالم باعتباره مسرحاً مفتوحاً، تضطر الدول إلى خوضها لتعزيز ودعم استقرارها على رغم الأوردة المفتوحة على النزْف؛ لكن لا دعم يمكن أن يقف عليه عاقل لدول تنتج حروبها وصراعاتها واحتقاناتها الداخلية. إنه بداية تلاشيها وانهيارها ما لم تتعقّل بالوقوف على أسبابها.
دول فيها الصراعات تبدأ بـ «تصرف شخصي». تتكرر التصرفات الشخصية وتتراكم. تقود الأمم والأوطان إلى كوارث إن لم يكن إلى ما بعدها. ولنا في امتداد التصرف الشخصي شاهد تاريخي أول وعتيق في تاريخ مازال ماثلاً وحاضراً. التصرف الشخصي لقابيل بتدشينه سفك الدم الأول؛ فيما الإنسان اليوم وغداً مازال يدفع الثمن حتى قيام الساعة.
والاعتراف بالأخطاء لا يقل محالاً عن لبن النوق العصافير؛ أو لبن العصفور نفسه! اعتراف الدول والأنظمة بأخطائها في الداخل بمثابة طعن في امتيازها وتفرّدها وحقها في الهيمنة على شعوبها بشكل مطلق. كأنه مساس بنسختها الوحيدة التي لا يمكن ولا يجب أن تتكرّر.
من يشعل شرارة الاقتتال والاحتراب الأهلي والطائفي في الأمم جميعها هم الجهَلة والمنتفعون وأصحاب المصالح وغالباً هم أصحاب العُقَد والفاشلون من الذين لا دور ولا تأثير ولا قيمة لهم في حراك الأمم.
سرْد الجنون الذي نحياه ونعاصره لا يكلّف شيئاً ولا صعوبة فيه؛ غير كلفة ضبطك بتهمة العقل؛ غير صعوبة التعايش معه. جنون يراد له أن يكون قطْب الرحى؛ فقط متى ما أرادت دول وأنظمة أن يشيع في حياتها وخصوصاً حين تحاط وتحاصر بمآزق وفشل صريح استغرق تراكمه عشرات العقود ويراد للشعوب أن تمسك بنزْفها لعشرات عقود أخرى كي يتم إصلاح العطب والخلل، ولا فضاء أو مؤشر يشي بذلك.
في ظل هكذا واقع، يبقى الغياب هو السمة الغالبة والأكثر وضوحاً ورؤية. لا حضور يمكن أن يُرى في اختطاف كهذا لمصائر الناس وفي وفرة الفواصل والحواجز والمنع وخنق أنفاس الناس وقوى احتياط تُرهب الناس في أمنهم وأرزاقهم وتطعن في عقائدهم، ولا تتردد لحظة في وضع يدها على عصَب الهويات الذي به ومن خلاله تذهب إلى الحد الأقصى من جنونها، وهي تعلم أنه عصَبٌ/ لغمٌ لن يُبقي ولن يذر ساعة يجد الناس أنهم مهدّدون في إحدى ركائز وجودهم ووعيهم.
لن يدّخر كثيرون رؤيتهم بشأن ذهابك في التشاؤم إلى أبعد مدى حين تقرأ الدولة العربية اليوم بأدائها وإسفافها واستهانتها بالإنسان؛ لكن من السذاجة والغيبوبة أن تكون أمامك الشواهد ومؤشرات ثم تتغافلها قفزاً؛ أو هروباً إلى الأمام، في محاولة لتزيين وتجميل واقع لا أمل فيه بأي جراحة تجميلية عبر غمْره بمساحيق وأدوات ومواد المواراة والترقيع. والمساحيق والجراحات التجميلية لن تحل مآزق بهيمة أنعام عدا حل مآزق بشر.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3509 - الأحد 15 أبريل 2012م الموافق 24 جمادى الأولى 1433هـ
2222
بارك الله فيك