من المعروف أنه كلما تطوّر الانسان في مسيرته الحضارية، ارتفعت نسبة معطوبيته. ظهرت الأمراض القاتلة، بعد ان اكتشف الانسان الزراعة، ودجّن الحيوانات. فالمعروف أن كل الامراض المميتة تقريبا أتت من الدواجن، كالطاعون، السلّ، الانفلونزا، الشهقة وغيرها. حاليّا، هناك مرض جنون البقر. ودفع الانسان، في حربه ضد هذه الامراض الكثير من الارواح، لكنه استطاع أن يستمر عبر ما اخترع من مضادات لهذه الأمراض. إذا للتقدم ثمن، لابد من دفعه. وللتقدم أوجه مختلفة ليست زاهية كفوائده. فإلى جانب هذه الفوائد كانت هناك دائما صور قاتمة عانت منها البشرية، وخير دليل على ذلك الطاقة النوويّة، فهي مفيدة في حقل انتاج الطاقة والحقول الطبيّة، لكنها مميتة في الحروب، وفي السيناريو الأسوأ الممكن حصوله، أي عندما يستولي ويملك الارهاب هذا السلاح. وفعلا هذا ما يُقلق ويقضّ مضاجع العالم الغربي عموما، والولايات المتحدة خصوصا.
يقول الكاتب الأميركي الشهير الفن توفلر في كتابه «الموجة الثالثة»، إن البشرية مرّت عبر تقدمها بثلاث موجات. الموجة الاولى، هي الموجة الزراعية. في هذه الموجة كانت الأرض مصدر الثروة، ودليل القوة. من يملك الأرض، كان يحكم. سيطر الملوك والامراء على الحكم، فحكموا الشعوب والبشر. الموجة الثانية، هي الموجة الصناعية، إذ شكّلت الآلة والمواد الاولية مصدر الثروة لهذه الموجة، وبدا رأس المال ضروريّا للحصول على المزيد من الآلات. بدأ الغرب هذه الموجة، فسيطر على الآلة، وسيطر على منابع الثروات عبر المستعمرات التي احتلها. أما الموجة الثالثة، فهي الموجة التكنولوجيّة. في هذه الموجة تأتي المعرفة والمعلومات في المركز الاول باعتبارها مصدرا للثروة. وحلّ الفكر بشكل تام مكان القوة العضلية. الطري، يلغي تقريبا الصلب، Soft versus Hard. وبالتالي، كان لكل موجة تأثيرها الخاص على التطور البشري. وكانت لكل موجة وسائلها، ولغّتها الخاصة. المنجل في الموجة الزراعية، مقابل الحاصدة الآلية في الموجة الصناعية، واخيرا مقابل الغذاء الكامل عبر حبّة من المختبر الغذائي. الخنجر في الموجة الزراعية سلاحا، مقابل البندقية في الموجة الصناعية، ووصولا إلى الليزر في الموجة التكنولوجية.
أنتجت كل موجة مجتمعها الخاص، وعلى شاكلتها. غالبية افريقيا حاليّا، لاتزال تعيش في الموجة الاولى. الشرق الاوسط، يعيش الموجة الصناعية. أما أميركا والعالم الغربي، فانتقل وابتكر الموجة التكنولوجية.
يقول الخبراء ان التطور يتبع عادة وتاريخيّا ثلاث مراحل على الشكل الآتي:
- في المرحلة الاولى، يكون الوضع ستاتيكو، أي أن هناك دولة ما لديها السبق في مجال أساسي تسيطر به على العالم. تسعى هذه الدولة إلى منع الآخرين من الحصول على هذا السبق والمنافسة. قد يكون المنع عبر الحرب، أو عبر حظر نقل المعلومات عن هذا السبق إلى الخارج. يكون عادة هذا السبق مُكلفا على الصعيد المالي، وصعبا وشائكا على الصعيدين الفني والتقني Know - How. احتكرت أميركا النووي بعد الحرب الثانية، حتى استطاع الاتحاد السوفياتي خرق هذا السبق في بداية الخمسينات. كرّت السبحة بعد ذلك مع الكثير من الدول الكبرى.
- في المرحلة الثانية، تتمكن إحدى الدول من الحصول على هذا السبق، فتتوازن القوى. تلي هذه المرحلة، مرحلة تكديس هذا السبق، وتطويره لتحسين مردوده. بعد ان توازن الرعب بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وكدّس الاثنان آلاف الرؤوس النوويّة، راح الاثنان يسعيان إلى تطوير النووي، وخصوصا في مفعول التدمير، وسيلة الاطلاق، الدقّة والمدى.
- في المرحلة الثالثة يبدأ هذا السبق بالانتشار Proliferation على أكثر من دولة عظمى، وخصوصا بين الدول من الترتيب الثاني والثالث. هكذا حصل مع النووي بعد أميركا والاتحاد السوفياتي، إذ انتشر هذا السلاح بين الدول الكبرى: فرنسا، انجلترا، الصين. وأخيرا وصل هذا السلاح إلى الهند وباكستان. وها هي كوريا الشمالية تحاول الحصول عليه، في الوقت الذي تحاول الولايات المتحدة منع إيران من إنهاء مشروعها في هذا المجال.
لكن الاكيد أنه، وفي كل موجة، حصلت هذه المراحل، وفي كل الابعاد. على صعيد التسلّح وحتى على البُعد الاجتماعي الصرف والمتعلّق بالازياء والعادات والتقاليد. فعلى سبيل المثال، وفي الموجة التكنولوجية الحالية، نلاحظ ان العادات والتقاليد الأميركية انتشرت في العالم كالنار في الهشيم. كذلك الامر، انتشر كل ما يتعلق بالتكنولوجيا، وخصوصا المتعلّقة بالاتصالات كالانترنت وغيرها. وأصبحت فترات الزمن ما بين المراحل الثلاث المذكورة أعلاه، وبعكس ما كان يحصل في الماضي، قصيرة جدّا جدّا، فبالكاد تظهر تكنولوجيا معينة في بلد ما، حتى نراها منتشرة حتى آخر بلد في العالم.
ما تأثير هذه الأمور
على الآلة العسكرية؟
لا يمكن فصل المجتمعات عن جيوشها. فالجيش عادة يعكس صورة المجتمع الذي انبثق منه، وبالتالي، تسعى كل الدول إلى الحصول على أكثر التكنولوجيات المتقدمة بهدف الحفاظ على أمنها القومي. ويبدو في هذا الامر، أن الولايات المتحدة الأميركية تتصدّر كل الدول في مجال الثورة في الشئون العسكرية، فالتجربة ماثلة أمامنا ابتداء من العراق العام 1991، كوسوفو، افغانستان وأخيرا العراق في الطبعة المنقحة العام 2003. فهي حاليّا أحدثت الخرق الأكبر على صعيد إدخال التكنولوجيا الحديثة في آلتها العسكرية، ومن هنا تفوقها في هذا المجال. لذلك نرى الدول الكبرى تسعى إلى دراسة هذه الظاهرة، بهدف تقليدها، كسر الاحتكار الأميركي لها، أو العمل على خلق خرق آخر في مكان ما يزيل السبق الأميركي. أما الدول من العيار الصغير، فإنها تسعى إلى الحصول على رادع ما، الذي قد يتمثّل في السلاح النووي.
أين الإرهاب من التكنولوجيا؟
لأن العالم أصبح قرية صغيرة. ولأن التكنولوجيا والمعلومات أصبحت متوافرة بكثرة ولمن أراد. ولأن الإرهاب يتمثل في حرب الضعيف ضد الأقوى. ولأن الإرهاب ينطلق من الخفاء، ويضرب في المكان غير المتوقع. ولأنه دائما رابح في وجه الأقوى منه انطلاقا من مبدأ موازين القوى. ولأن الأسلحة أصبحت متوافرة، ولأنها أصبحت صغيرة Miniaturized جدّا يمكن نقلها إلى حيث يريد الإرهاب. ولأن الحدود تقريبا زالت بين الدول. ولأن الاتحاد السوفياتي سقط مع الدول التي كان يسيطر عليها. ولأن أسلحة الدمار الشامل أصبحت متوافرة أكثر من السابق... بسبب كل هذا أصبح الإرهاب خطرا إلى درجة يهدّد فيها، حتى كيان ووجود الدول المستهدفة. فلو سألنا مثلا أي شخص السؤال الآتي: «لو حصل تنظيم القاعدة على سلاح نووي، وتوافرت له الفرصة لاستعماله ضد الولايات المتحدة، فهل سيتردد هذا التنظيم؟». طبعا كلا. من هنا وعي أميركا الحساس جدّا تجاه هذا الخطر المحدق بها. يكمن خطر الإرهاب الحالي في انه الندّ والعدو الوحيد للدولة - الأمة. فبعد ان كانت تُخاض الحروب بين الدولة - الأمة فيما بينها، نرى الآن، لاعبين من غير الدولة - الأمة، يحتكرون الدور التقليدي الذي كانت تلعبه الدولة - الامة فيما خص احتكار استعمال العنف. باختصار، وكما قال الكاتب السياسي الأميركي جوزف ناي جونيور في مقال له في مجلة «الفورين افيرز»: «مع القاعدة، وبعد 11 سبتمبر/ أيلول، تمت خصخصة الحرب». فبعد ضربة 11 سبتمبر تبنيت الأمور الآتية:
- درجة المعطوبية المرتفعة لدى الدول الغربية المتقدمة تجاه أمنها الداخلي. فالأهداف متوافرة بكثرة لمن أراد الأذى.
أنه لا حاجة إلى تهريب أسلحة دمار شامل إلى بلد مقصود، فيمكن ابتكار مما توافر في الداخل. وشكّلت الطائرات التي اصطدمت ببرجي التجارة في نيويورك أذكى صواريخ موجهة في تاريخ الاسلحة الذكية حتى الآن، فالمبنى الذي استغرق بناؤه 10 سنوات واحتل مساحة تقارب 10 ملايين قدم مربع، سقط خلال 90 دقيقة وكلّف أكثر من 30 مليار دولار فور سقوطه، هذا عدا الخسائر المتفرعة عنه.
- يقول طوماس ديكسون في مقال له في «الفورين بوليسي»، ان التكنولوجيا المتعلقة بالتغطية الاعلامية ساهمت، عن غير قصد، في نقل الذعر إلى كل الأميركيين، وذلك من خلال التغطية المباشرة والمستمرة لهجمة 11 سبتمبر. وبدا الأمر وكأن الأميركيين كانوا متواصلين عبر شبكة مماثلة لشبكة النخاع الشوكي للإنسان التي يقوم عليها جهازه العصبي. فالإعلام والتغطية المستمرة كانا قد نقلا إلى الأميركيين الخوف والهلع والغضب وكل الصور التي لا يمكن ان تمحى من الذاكرة الجماعية ولو بعد مئات السنين.
منذ أسبوع، حلت العتمة في الطرف الشرقي للولايات المتحدة وامتد التعتيم حتى كندا. استبعد العمل الإرهابي، لكن المسئولين لم يعرفوا السبب حتى الآن.
على ماذا يدلّ هذا الأمر؟
1- تأكيد درجة المعطوبية لدى المجتمعات المتطورة. فالحادث الذي بدأ في نقطة ما، أعطى مفعولا كمفعول أحجار الدومينو المتساقطة، إن سقط حجر من اللعبة، توالى السقوط للكل، إلى درجة قد يصعب تحديد السبب ومن هو المسئول.
2- أكد هذا الحادث أن الاهداف متوافرة للإرهاب بشكل وفير، ووفير جدّا. فالحادث اعطى الإرهاب نموذجا قد يحتذى به، فهو كالمناورة له، التي قد تسبق التنفيذ العملي عادة على أرض الواقع.
3- أكد ايضا أنه يمكن للإرهابي ان يجد وسيلة إرهابه داخل المجتمعات المتطورة، ولا حاجة إلى الاستيراد من الخارج. ففي الوقت الذي تحاول أميركا فيه مطاردة أسلحة الدمار الشامل الوهمية في العراق أو في اية منطقة أخرى خوفا من استعمالها ضدها، قد تشهد أميركا حادثا إرهابيّا في داخلها، بواسطة وسائل من الداخل. وليس من الضروري أن تكون الأهداف في العملية المستقبلية تتمثل في المواطنين - كما حصل في 11 سبتمبر - فقد تشكّل البنى التحتية اهدافا مثالية.
4- بسبب هذه الحوادث الداخلية، قد ترتد المجتمعات المتطورة وتلتفت إلى أمنها الداخلي أكثر من الماضي. وهذا الأمر قد يلهيها عن الخارج وسيكلفها الكثير من الأموال، الأمر الذي قد ينعكس على مستوى معيشتها. أليس هذا ما يريده الإرهاب، وخصوصا القاعدة؟
ما
العدد 350 - الخميس 21 أغسطس 2003م الموافق 22 جمادى الآخرة 1424هـ