العدد 3493 - الجمعة 30 مارس 2012م الموافق 08 جمادى الأولى 1433هـ

القصّاص شاهد بيئي على العصر

نجيب صعب comments [at] alwasatnews.com

ناشر ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»

نادراً ما تجتمع خصائل فريدة في رجل واحد، كما اجتمعت في محمد عبدالفتاح القصّاص، الذي رحل في (21 مارس/ آذار ٢٠١٢) عن واحد وتسعين عاماً. فإلى سعة العلم والمعرفة، كان يتمتع بميزات التواضع والمواظبة والشغف وحب العطاء.
القصّاص شخصية عالمية في موضوع البيئة، وهو أول من أدخل مفهوم التصحر في الوسط العلمي الدولي. وكان، مع أسامة الخولي الذي رحل قبل عشر سنين، في طليعة الفريق العلمي الذي اعتمد عليه مصطفى كمال في تطوير برنامج الأمم المتحدة للبيئة خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
ولد القصّاص العام 1921 في بلدة برج البرلّس، وهي الأكثر انخفاضاً في منطقة الدلتا المصرية والأكثر عرضة للغرق نتيجة لارتفاع البحار بفعل تغير المناخ. هذه كانت فكرة الانطلاق للفيلم الوثائقي الذي أعددتُه معه العام 2008 بعنوان «شهادة بيئية على العصر». وقد اختار القصّاص للنسخة الانجليزية عنوان «شهادة رجل عجوز». يستعرض الشريط تحديات البيئة في المنطقة العربية خلال قرن، كما يرويها «الشاهد» محمد القصّاص منذ ولادته في برج البرلّس. وعبر حياة القصّاص وتجربته، يعرض الشريط أبرز التحديات التي تواجه البيئة العربية، مثل النمو السكاني والتوسع المديني والضغوط على الموارد الطبيعية والمياه والهواء والبحار، وينتهي بدعوة الى المواجهة عن طريق العلم والتعاون الاقليمي.
بعد تخرجه من جامعة القاهرة العام 1944، عمل القصّاص أستاذاً فيها، قبل حصوله على الدكتوراه في علم بيئة النبات من جامعة كمبريدج البريطانية العام 1950. كان عضواً في أكاديميات ومجمعات علمية عربية ودولية، ترأس الاتحاد الدولي لصون الطبيعة بين عامي 1971 و1984. أسس مدرسة بحوث البيئة الصحراوية التي كان لها دور الريادة في التعريف بقضايا التصحر، وتتلمذ على يديه مئات العلماء. شارك في وضع خرائط البيئة لحوض البحر المتوسط، وعمل على تنمية الاهتمام بعلوم البيئة في المنطقة العربية، وأعد بعض أهم الدراسات البيئية في العالم.
بقي القصّاص حتى آخر أيامه يداوم يومياً في مكتبه في كلية العلوم في جامعة القاهرة، ويستقبل الباحثين من جميع أنحاء العالم. وفي الشهور الأخيرة قبل وفاته كنا نعمل معاً على التقرير الجديد للمنتدى العربي للبيئة والتنمية في موضوع البصمة البيئية وفرص الاستدامة للدول العربية. وهو ساهم في تأليف جميع التقارير السنوية التي أصدرها المنتدى عن وضع البيئة العربية، وكتب خلال العقدين الأخيرين أهم الأبحاث التي نشرتها مجلة «البيئة والتنمية». ومازالت المجلة تحتفظ بمخطوطات أبحاثه التي كتبها بخط يده، خالية من أي خطأ في حرف أو رقم أو مرجع، وذلك لاستخدامها كنموذج لتدريب الباحثين والكتّاب.
ابنتي، التي تعمل على أطروحة الدكتوراه في جامعة لندن حول أثر تغير المناخ على حق الانسان في الغذاء، أرسلت اليه قبل أسابيع ملخصاً عن نتائج أبحاثها للوقوف على رأيه. بعد أيام قليلة، أجابها برسالة خطها بيده، مرفقة بالعديد من المراجع. فوجئ الأساتذة في جامعة لندن بدقة ملاحظاته، المستندة الى معلومات حديثة، بعضها لم يكونوا هم على اطلاع عليها بعد.
المديرة العامة للاتحاد الدولي لصون الطبيعة جوليا مارتون وصفت القصّاص بأنه «أعظم رئيس في تاريخ الاتحاد. كان قادراً على تحقيق إجماع عالمي حيال المنظمة وعلى منحها وضوح البصيرة. لن تفتقده المنطقة العربية فقط، بل كل الوسط العلمي والبيئي حول العالم. لقد ترك إرثاً باقياً لأمد طويل».
حين التقيته للمرة الأخيرة قبل ثلاثة أشهر، في الثامنة صباحاً كالعادة، كان عائداً لتوه من قلم الاقتراع، حيث حرص على الإدلاء بصوته في انتخابات مجلس الشعب في الصباح الباكر حفاظاً على موعدنا. بحثنا في موضوع التقرير الذي نعدّه عن «فرص الاستدامة في العالم العربي»، وأذكر ملاحظته الأخيرة: لماذا لا يكون العنوان «فرص البقاء»؟ قد تكون هذه وصية القصّاص الأخيرة للعالم العربي: حسن إدارة الموارد الطبيعية بناء على العلم ليس خياراً للعرب، بل هو شرط للبقاء.

إقرأ أيضا لـ "نجيب صعب"

العدد 3493 - الجمعة 30 مارس 2012م الموافق 08 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً