انتقل إلى ملكوت السماء قداسة البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية عن عمر يناهز التاسعة والثمانين.
وبلا أدنى مبالغة؛ فإنه يمكن أن يطلق عليه أحد الأعمدة الرئيسية للوطنية المصرية بل للقومية العربية.
ولعل الشواهد على ذلك كثيرة، لكننا نسوق أربعة من الأمثلة الكثيرة للدلالة على ذلك:
الأول: إنه صاحب الموقف العروبي الأصيل بعدم السماح للأقباط بزيارة الأماكن المقدسة في القدس وفلسطين منذ خضوعها للاحتلال الإسرائيلي وكان هذا الموقف الوطني والعروبي خير دلالة على تأييد قداسة البابا شنودة للقضية الفلسطينية وهي قضية شعب تم تشريده وتتسم بالعدالة لكنها تتعرض للظلم بسبب الانحياز العالمي وبسبب عجز أصحابها عن الدفاع عنها بجدية وصدقية وبسلوك بنَّاء ومبتكر، وعبَّر البابا شنودة عن رفضه الخضوع أو قبول الاحتلال غير الشرعي كأمر واقع وأدى هذا الموقف إلى وقوع خلاف بين سلطات الاحتلال وبين الكنيسة القبطية على مقر أحد الأديرة في القدس الشريف وقامت سلطات الاحتلال بالتدخل في النزاع وبدلاً من أن تعطيه لأصحابه الشرعيين، أي الكنيسة القبطية، أعطته للكنيسة الإثيوبية على رغم كل الضغوط التي مارستها مصر كدولة وضغوط مؤسسات مسيحية كثيرة وعلى رغم أن الكنيسة القبطية هي صاحبة الحق الشرعي لكن سلوك إسرائيل كدولة مغتصبة لأرض فلسطين لم يكن يهمها أن تعطي الدير للكنيسة القبطية المصرية.
والثاني: دور قداسة البابا في رأب الصدع بين المسلمين والأقباط كلما وقعت اعتداءات على بعض الكنائس القبطية من قبل جماعات متشددة تتمسح بالإسلام الذي هو بريء من مواقفها ومن تشددها لأنه أمَرَ بحماية الكنائس والأديرة وعدم المساس بها وبمن فيها واحترامها تماشياً مع سماحة الإسلام وانه جاء ليكمل ما بناه الأنبياء من قبل محمد (عليه الصلاة والسلام) واعترافه بالديانتين اليهودية والمسيحية وبمكانة السيدة مريم العذراء والسيد يسوع المسيح باعتباره نبيّاً ورسولاً من أنبياء الله ورسله وأمه وصفها بأنها صديقة وهذا قمة في النقاء والتقى وهي التي أحصنت فرجها ونفخ الله سبحانه وتعالى بقدرته، وهو على كل شيء قدير، فيها من روح القدس فأنجبت السيد المسيح عيسى بن مريم ووصفه الله سبحانه وتعالى في القرآن بأنه سيد وحصور ونبي. وان مثله مثل آدم فهو معجزة وآية من آيات الله جل وعلا ليكون عبرة للخلق أجمعين، وعلى رغم الفترة القصيرة من حياته؛ فإن أتباعه انتشروا في مختلف بقاع العالم وسيظلون كذلك إلى يوم القيامة «ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون» (مريم: 34).
البابا شنودة هو حامل رسالة السيد المسيح لأقباط مصر وسائر الكنائس الأرثوذكسية التي انتشرت في كثير من بلاد المهجر وفي إفريقيا وأوربا وآسيا واستراليا وغيرها.
الثالث: شارك قداسة البابا مع قضية شيخ الأزهر أحمد الطيب في إنشاء ما سمي ببيت العائلة الذي يجمع القيادات المسيحية والإسلامية لحل أية مشاكل وقد تأسس هذا التنظيم بعد ثورة 25 يناير ووقوع عدة أحداث هددت الوحدة الوطنية وكان قداسته على صلة وثيقة مع شيخ الأزهر السابق فضيلة الشيخ محمد سيد طنطاوي وتعاونا معاً من أجل تخفيف الاحتقان الطائفي في مصر والذي كان يشتعل من حين إلى آخر لضيق أفق بعض معتنقي الديانتين ولتدخلات أجنبية أيضاً وكان كلاهما حريص على بناء التوافق الوطني والبعد عن أية تصريحات أو بيانات تثير النفوس وتشحنها بالبغضاء والكراهية، وهكذا كان قادة الكنيسة والأزهر، كلاهما قدوة ونموذج لأتباعه يحرص على التوافق الوطني ويسعي لحل المشاكل والخلافات بين أبناء الوطن بعضهم بعضاً أو المشاكل مع القيادة السياسية بالحسنى.
الرابع: البابا شنودة هو ابن بار من أبناء مصر وبالذات من أبناء محافظة أسيوط التي تقع في قلب صعيد مصر والتي أنتمي أنا إليها أيضاً وينتمي إليها أيضاً الزعيم خالد الذكر جمال عبدالناصر؛ ومن ثم فإن إحساسه الوطني كان قويّاً وجارفاً وكان قداسته ملمّاً بالسياسة ودروبها وما في تلك الدروب من مطبات يمكن أن تشعل فتنة وطنية؛ لكنه كان حريصاً على تجنب تلك المزالق ومعالجتها بحكمة ورؤيته، كما كان البابا شنودة الثالث أديباً وصحافيّاً وخطيباً مفوهاً وله مقولة دائما أتشرف بأن أشير إليها في كتاباتي تعبر عن حبه لمصر وطنه ورفضه لأي مساس به وبسيادته ورفضه أي تدخل أجنبي من قبل القوى الطامعة ورفض الانسياق وراء بعض المتشددين من أقباط المهجر الذين دعوا إلى التدخل الأميركي أو طالبوا بقطع المعونات الأميركية عن مصر وكان قداسته يرفض ذلك تماماً وينتقد الداعين إليه ويكرر مقولته الحكيمة التي تعد من جوامع الحكم «إن مصر وطن يعيش فينا وليست وطناً نعيش فيه»، وهذا قمة البلاغة في التعبير عن ولاء الإنسان لوطنه وتلاحمه معه روحيّاً وليس جسديّاً فقط.
لقد ترك البابا شنودة تراثاً من التسامح الديني لدى الشعب المصري بطوائفه كافة ما جعل الجميع من المسلمين والأقباط يتسابقون في الإعراب عن حزنهم الشديد لفقدانه في هذه اللحظات الحرجة في تاريخ مصر وتطورها السياسي. وحقّاً كما قال الشاعر:
«وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر»
وهكذا فإن شعب مصر بأسره سيفتقد البابا شنودة وحكمته ورؤيته المتروية وبصيرته الثاقبة.
لقد تشرفت بأن استقبلت البابا شنودة الثالث في مقر البعثة المصرية لدى الأمم المتحدة عندما زارها البابا في مطلع التسعينات وكنت آنذاك قائماً بالأعمال بالنيابة لعدم وجود رئيس بعثة في تلك الفترة وأقمت حفلاً كبيراً على شرفه بدار البعثة حضرته الجالية المصرية في نيويورك ونيوجرسي من المسلمين والأقباط على حد سواء وكان ودوداً ولطيفاً في حديثه وفي مداعباته وترك ذلك أثراً بليغاً في كل من التقى معه فلم يكن من رجال الدين المتجهمين العبوسين.
رحم الله قداسة البابا شنودة الثالث وأسكنه في ملكوت السموات وأرشد أبناءه وبناته من أقباط مصر أو كما يتردد في المصطلحات المسيحية شعب كنيسته القبطية في مصر وسائر البلاد للسير على منواله والاقتداء بمنهجه والتمسك باللحمة الوطنية والحفاظ على تراثه الوطني.
وعزائي لجميع إخوتي وأخواتي من أقباط مصر في أرض الكنانة وفي بلاد المهجر وخاصة في مملكة البحرين أرض الخير والعطاء والتسامح في ظل قيادتها الرشيدة وشعبها الأبي العربي الأصيل.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3481 - الأحد 18 مارس 2012م الموافق 25 ربيع الثاني 1433هـ