بعد ان تطاير شرر جمر العراق على دول المنطقة وانكشف المستور... والآن وبعد ان انفض السامر ورفعت مراسم الحداد الشرعية لوفاة نظام الحروب العبثية بعد ان مضى أكثر من مئة يوم على سقوط بغداد وبعد ان وصل الصهاينة وهم يرتدون البزة العسكرية الأميركية إلى شواطئ عاصمة الشعر العربي، هل اعتبرنا - عربا ومسلمين - بالدروس المستفادة من هذا الغزو أم اننا سنبقى كالعادة عاجزين عن فهم ما يجري؟
ومرة أخرى... والآن وبعد ان حدد الأميركيون ماذا يريدون بالضبط وفتحوا كل الملفات على مصراعيها لكي يشيعوا العدم الثقافي والسياسي والتاريخي والانساني والجغرافي، ما العمل؟ وهل سنبقى متفرجين على ما يدور بسلبية تشبه سلبية جحا حينما أيقظته زوجته من النوم وقالت له انني رأيت لصا يقتحم منزل احد الجيران، فتحرك من أجل المشاركة في الامساك به... فما كان رده عليها الا ان قال: ان اللص طالما هو في بيت جاري وليس في بيتي فلا داعي لأن أقلق راحتي ودعيني أواصل نومي... إلى أن ايقظته زوجته ذات ليلة وقالت له: ان اللص دخل منزلنا، فقال لها: طالما هو يسرق مقتنيات الدور الارضي ونحن موجودون في الدور العلوي فدعيه يسرق ما يشاء ودعينا نقنع أنفسنا بان ما يحدث لا علاقة له بنا وبمنزلنا. هل سنبقى نعيش هذه الحال الممتدة من الخليج إلى المحيط؟ فالكلام يدور عنا ونحن غير قادرين على الكلام.
ان ما بدأت تثيره بعض مراكز صناع القرار السياسي في أميركا ضد السعودية، منذ مطلع العام الجاري وحتى آخر ما صدر في الاسبوع الماضي من تصريحات لا نتوقع ان تكون الاخيرة بشأن ضلوعها في هجمات سبتمبر/ أيلول، يجب ان نقرأ جيدا ما بين سطور سيناريو محبوك بشكل جيد من أجل تهيئة أجواء المنطقة نفسيا. فما ارتفاع وتيرة التقسيمات التي اطلقها بعض النواب في الكونغرس الأميركي عبر ما اطلق عليه نتائج التحقيق عن الجهات المتورطة في حوادث سبتمبر الا عنوانا عريضا يراد تمريره بهدوء حين تأتي الظروف. وهو بالضبط ما حدث مع العراق حينما طرح الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن أنطوني كورسمان حقيقة فحوى الاتهامات الأميركية للعراق وانتهى الى ضرورة الانتهاء من انجاز واجب حرب تحرير الكويت الذي كان ينظر اليه في الدوائر السياسية الأميركية «بالواجب الناقص» في اشارة الى عدم اسقاط بوش الأب نظام الطاغية صدام حسين ابان تلك الحرب واذعان العراق والعراقيين إلى الإرادة الأميركية لبلورة الفهم الأميركي بضرورة بقاء منطقة الشرق الأوسط في دائرة نطاق السيطرة على النفط... وهو ما حدث.
والمراقب لسير الوقائع التي سبقت وأعقبت غزو واحتلال العراق شعبا ووطنا تتبدى له بوضوح ان فكرة احتلال العراق لم تصدر اميركيا من أعلى سلطة لصناعة القرار السياسي والاستراتيجي وانما عبر تعالي أصوات «اليمين الجديد» وبعض الجهات غير الحكومية التي قالت عنها الادارات الأميركية المتعاقبة ان ما أعلن بخصوص غزو واحتلال العراق لا يعدو كونه آراء تمثل وجهات نظر جهات حكومية وان ما أثير غير موضوع بتاتا على روزنامة الاجندة السياسية للإدارة الأميركية. لكن ما حدث هو العكس وهي العبارات التي مررها بعض المسئولين الحاليين في الإدارة الأميركية حينما طرح أحد الباحثين موضوع احتلال أو تقسيم السعودية للقضاء على الارهاب حتى لا يستخدم النفط رأس مال لتمويل الارهاب اذ حينها نفى وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد ان تكون وجهة النظر هذه تمثل رأي الحكومة الأميركية وها هي التبريرات نفسها تتردد على لسان الرئيس بوش عقب صدور نتائج مذكرات التقرير الذي اعدته مجموعة من اعضاء الكونغرس الأميركي والمكون من 870 صفحة وتحديدا حينما قال بعد اجتماعه مع وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل ان هذا لا يمثل رأي الحكومة الأميركية وان المعلومات التي أتت في 28 صفحة من ذلك التقرير لم يتم اطلاع الحكومة السعودية عليها لأسباب أمنية.
وبنظرة فاحصة ومن خلال استقراء الموقف العام وجدنا ان كل ما طرح بشأن العراق قبل الغزو والاحتلال كان يمثل صلب المواقف السياسية والاستراتيجية الأميركية، لا بل لمسنا ان مجمل السياسات الأميركية حيال العراق كانت هي المنشورة على حبل العلاقة المشدود بين العراق وأميركا الذي كانت تتراقص عليه ملفات الخيارات الاستراتيجية الفهم الأميركي التي ضمنها الباحث انطوني كرسمان بحثه المعنون «الخيارات الاستراتيجية بعد حرب الخليج الثانية» وهي الصيغ نفسها التي روج لها باتريك كلاوسن ونفر من الباحثين الاسرائيليين العاملين معه في معهد الشرق الاوسط للدراسات الاستراتيجية التابع لمنظمة «الايباك» الصهيونية في واشنطن حينما أصدر كتابه «خيارات استراتيجية في الفهم الاميركي الاستراتيجي تجاه العراق» الذي ناقش فيه عوامل الايجاب والقصور في التطبيقات الاستراتيجية الاميركية حيال العراق وأوصى بضرورة اعدام جميع أشكال خيارات الحوار مع العراق وتعزيز «شقة الافتراق التي ابتدأت بالاحتواء والضغط وانتهت بالغزو المسلح والاحتلال» وما شاهدناه ان هذه الصيغ التي قيل عنها لا تمثل الا رأي مروجيها هي عصب الاستراتيجية التي انتهجتها أميركا مع العراق.
والمتمعن في حيثيات ما انطوت عليه نصوص بنود القرار 1441 الذي اعدته وقدمته أميركا وبريطانيا الى مجلس الأمن والامم المتحدة سيكتشف من خلال القراءة الفاحصة التي لا تحتاج الى العناء مدى التأثير القوي للنتائج التي توصل اليها هؤلاء الباحثون على صوغ مسودة النص الأميركي للقرار 1441 الذي شرعن بولادة متعسرة من بين دهاليز مجلس الأمن. وبذلك جير على انه قرار أممي صادر عن الأمم المتحدة بينما هو في الواقع صادر عن عصبة الأمم المتحدة... وكيف استطاعت بريطانيا وأميركا تكييف سلطة الاسئلة والاجابات وسيناريوهات الحوادث التي طالت شظاياها المنطقة، ولعل ما نخشاه هو ان يأتي اليوم الذي نجد فيه هذه الرؤى - التي قيل عنها من قبل اطراف الحكم في أميركا شخصانية - هي الخيارات تجاه السعودية والمنطقة التي تم وضعها على طاولة صناعة القرار الاستراتيجي في البيت الابيض وان ما أعلن من تصريحات ليس اكثر من روشتة طبية صرفها طبيب يعرف ان مريضه لا علاج له وان علاجه الوحيد المسكنات وايجاد تبريرات تدخل في دائرة توزيع الادوار سواء مع الاعداء أوالاصدقاء هذا اذا كان لدى الولايات المتحدة فعلا اصدقاء غير «إسرائيل» بعد سبتمبر 2001.
وماذا بعد؟
انتبهوا يا عرب... فكل الشواهد والثوابت التي افرزتها مستجدات الحوادث لا تتطلب اعتماد سياسة الصبر بعد ان وضعت الايدي في الجمر. فوهج الجمر العراقي المشتعل تطاير شررا مع تطاير اوراق تقرير الاتهام والاقتحام والمتغيرات الجديدة التي وان تأخرت تطبيقاتها الاستراتيجية بعض الشيء فستبقى هي الخيارات التي من خلالها ستعلن الحروب الباردة والساخنة لتغيير خريطة المنطقة السياسية والجغرافية
إقرأ أيضا لـ "عدنان الموسوي"العدد 348 - الثلثاء 19 أغسطس 2003م الموافق 20 جمادى الآخرة 1424هـ