(ملاحظة: هذه بعض مقالات نشرت في كتاب «مداخلات في الفكر والسياسة... نحو تأصيل إسلامي للنهج التعددي» من تأليف رئيس تحرير صحيفة «الوسط» البحرينية منصور الجمري في 2008، ويعاد نشر أجزاء منه لارتباطها بتطورات الربيع العربي الذي أوصل اتجاهات إسلامية تؤمن بالتعددية الى سدة الحكم. كما أن المقالات كتبت في نهاية التسعينات من القرن الماضي في لندن، وبعضها كان نتاجاً لتفاعلات فكرية مع زعيم حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي، ووزير الخارجية التونسي الحالي رفيق عبدالسلام).
****
في العام 2000، قام الكاتب (منصور الجمري) مع الباحث التونسي رفيق عبدالسلام (وزير الخارجية التونسي حاليّاً) بتلخيص مبادئ تعددية لعمل إسلامي سياسي. والمقصود بالطرح الإسلامي التعددي هو حالة التعاقد المعنوي نحو إطار عام ناظم للحقوق الفردية والعامة في إطار الأرضية الإسلامية الواسعة. فالإسلاميون لديهم اجتهادات وآراء سبق أن أفصحت عنها رموز فكرية وقيادات سياسية إسلامية لكنها بقيت مبثوثة في بطون الكتب ومتناثرة عن بعضها بعضاً من دون أن ترتقي إلى مستوى الصياغات الوثائقية الدقيقة والمختصرة. ويمكن إرجاع المرتكزات الأساسية لميثاق إسلامي تعددي إلى المبادئ الآتية: 1 - التوحيد. وهو الاعتقاد بالله الواحد والخالق المتعالي وتتأسس بمقتضاه المفردات الآتية: أولاً: قيمة المساواة التامة بين البشر دونما تمييز على أساس الدين أو العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس. فالناس متساوون أمام الله كما هم متساوون فيما بينهم وهم متكافئون في الكرامة الإنسانية ولا تفاضل بينهم إلا في مجال الفضائل المكتسبة، أما في مجال الحقوق الإنسانية فهم متساوون تماماً. فهذا التوحيد المطلق لله يعني أن الله سبحانه ليس ملكاً لقبيلة أو جماعة قومية مبجلة ولا ملكاً لجهاز ديني يدعي لنفسه حق السدانة الروحية ولا لجهاز سياسي يدعي لنفسه حق القيمومة والوصاية السياسية باسم المقدس الديني، بل هو سبحانه منفتح على جميع الخلق ضمن علاقة حرة ومباشرة لا وسائط ولا مراتب فيها ومنفتح على جميع آفاق العالمية والكونية الإنسانية. ثانياً: تتأسس بموجب مبدأ التوحيد والتنزيه المطلق مشروعية الاختلاف والتعدد في مستوى الكون وعالم الإنسان. فإذا كان الله سبحانه توحيداً مطلقاً فكل ما عداه في هذا الكون تعدد واختلاف. وهذا التعدد يعبر عن نفسه في مستوى النسيج الكوني بتعدد مشاهد الخلق في عالم النبات والحيوان والطبيعة وفي عالم الإنسان حيث يتراءى هذا التنوع في مستوى اختلاف الأجناس والألوان والألسن والعقائد والملل. وهذا التعدد ليس باعثاً على النفرة ولا موجباً للإلغاء، بل هو موجب للتدبر أو التعارف بالتعبير القرآني «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم» (الحجرات: 13). فالتعدد والتنوع لا يلغيان وحدة العائلة الإنسانية الموصولة بوحدة الأصل ووحدة الخلق والمصير. «كلكم لآدم وآدم من تراب». وعلى هذا الأساس؛ فإن الإسلام لا يبتغي وحدة التجانس والتطابق، بل وحدة التنوع والاختلاف، أي تأسيس وحدة مركبة من نسيج الاختلاف والتعدد. فكل ما يراهن عليه الإسلام هو حسن تنظيم وتأطير هذا الاختلاف والحيلولة دون عده مصدراً للتدابر والتقاتل. ومن مفضيات هذا التصور العام يتأسس التعدد الديني والقومي واللغوي في نسيج المجتمع، ففضاء الأمة الإسلامية ليس لاغياً للاختلافات الاجتهادية والمذهبية والقومية، ولا باعثاً على العداوة والبغضاء مع الأمم الأخرى المتباينة في العقيدة والتصور. كما أن هذا الاختلاف والتعدد القائم على معاني الرحمة الإلهية ليس دافعاً للوحشة والضياع؛ لأن الاختلاف امتلاء بالمعنى وليس فراغاً في الدلالة وتجويفاً في المعنى كما هو الأمر في فلسفات العدمية والمدارس التأويلية المعاصرة التي تجعل من الاختلاف بوابة للقلق والتيه. ثالثاً: السيادة في الأساس لله، ولا سيادة لأحد على غيره من البشر من دون تعاقد ينظم العلاقات الإنسانية لتداول السلطة وحماية مصالح المجتمع بما يضمن سيادة الإنسان على شئونه، كما يوضح ذلك مفهوم الاستخلاف الذي يلغي كل أشكال التعارض والتناقض بين مبدأ السيادة الإلهية المطلقة وحرية الإنسان في الكون وتحديد مصيره. 2 - الفطرة والكرامة الإنسانية. تعد الفطرة في مبنى التصور الإسلامي العام مصدراً مهمّاً إلى جانب النص الديني، والمقصود بالفطرة «حالة الجبلة الطبيعية المركوزة في أصل الوجود الإنساني والتي لا يمكن التنازل عنها أو التهاون في طلبها». وفي مقدمة ذلك ميل الإنسان الفطري أو الطبيعي لاكتساب الحرية وكل الفضائل الإنسانية الداعمة لكرامته ورقيه الأخلاقي والوجودي ونبذه كل ألوان القيد والقسر. فالأصل في الإنسان هو الحرية أما القسر أو الإكراه فهو قيمة مناقضة ومشوهة لهذا الأصل. إن حرية الإنسان واحترام كرامته تدخلان ضمن الحقوق الفطرية التي لا معنى للوجود الإنساني من دونها، وهي أكثر من ذلك؛ ليست منة أو عطاء يتكرم به شخص أو جماعة بقدر ما هي حق طبيعي لا يجوز التنازل عنه أو التفريط فيه. ولذلك إن مهمة النظام الاجتماعي والسياسي توفير كل وسائل الدعم والحماية لحريات الناس وكرامتهم وتوفير كل الآليات القانونية والعملية التي تكون حاجزاً دون انتهاك الحقوق الفطرية للإنسان. 3 - مبدأ الاستخلاف. يقوم التصور الإسلامي على استخلاف الله الإنسان باعتباره أكرم المخلوقات قد اختصه من بين سائر خلقه بالفعل والتعقل والقدرة على التجاوز وسخر له ما في السماوات والأرض ووكل له عمارة الأرض وإقامة العدل. وعلى رغم أن الإنسان في مبنى التصور الإسلامي هو أفضل المخلوقات وأرفعها، فإنه ليس الكائن المنفرد والوحيد في هذا الكون الرحب، بل يتجاور ويتعايش مع مخلوقات أخرى يجب عليه إحاطتها بالألفة والرعاية ويجب عليه حسن القيام على معاني التسخير الكوني من دون رهبة أو وجل من هذا الكون الفسيح ولا عبثاً واستهتاراً في مكنوناته ومخزوناته. وتتأسس بمقتضى هذا التصور الاستخلافي: أولاً: تأسيس قيمة الحرية الإنسانية ورفض كل أشكال العسف والإكراه وذلك استناداً إلى الميثاق التأسيسي الأول الذي أعلن فيه الله سبحانه حرية الكائن المستخلف وأشهد ملائكته على هذا الحدث الجلل، فإذا كان مقام الاستخلاف هو الإنابة عن الله في الأرض فهو أمر موكول للإنسان الموصوف بالحرية بأتم معنى الكلمة بما في ذلك حرية الاختيار الديني والانخلاع من كل ضروب الإكراه والعسف، «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف: 29)، و«لا إكراه في الدين» (البقرة: 256). ثانياً: إقامة هذه الحقوق الإنسانية على أساس متين، بحيث إن الاعتداء على أي حق من حقوق الإنسان يعد انتهاكاً لحرمات الدين وفي مقدمة ذلك حقه في اعتقاد حر غير مدخول بإكراه أو خوف. وبشيء من المقارنة يمكن القول إن مصدر الحقوق التي أعادها الفكر الليبرالي الغربي إلى ما أسماه «الحقوق الطبيعية» يرجعها الإسلام إلى أصولها الدينية المتعالية التي أقرت ابتداء برفعة المكانة الوجودية والأخلاقية للإنسان. فهذه الحقوق لا يمنعها مانع أو يحجبها حاجب مهما كانت المبررات والأسباب؛ لأنها ممنوحة من الله سبحانه. فهناك تغدو الحقوق واجبات مقدسة لا حق لأحد الاعتداء عليها أو التفريط فيها؛ لأنها ملك للخالق الأوحد والإنسان مؤتمن عليها ومطلوب منه التصرف في تلك الوظيفة على الوجه الأكمل والمنسجم مع قيم الاستخلاف الإلهي له. فمحافظة الإنسان على حياته وتوفير مقومات بقائها وترقيها ليست حقّاً خاصّاً يستطيع أن يفرط فيه بالانتحار مثلاً أو الإهمال والتجويع والانتقام، بل هي حق إلهي استخلف عليه الإنسان وكذا رفض الظلم والإكراه والعدوان ومصادرة حرية الإنسان ليست مجرد حقوق مستمدة من الأصل الطبيعي بل هي واجبات دينية يثاب على فعلها ويعاقب على تركها. ثالثاً: يدخل ضمن مبدأ الاستخلاف الأمانة التي ألقاها الله على الإنسان لإعمار الأرض (التنمية) وتهيئتها للعيش الآمن بين الإنسان وأخيه الإنسان. والإعمار يعتبر مسئولية تشترك فيها المجموعة الإنسانية لتنمية البُنى التحتية وتطوير الوسائل الحياتية بما يلائم الرقي الحضاري المؤسس على الخبرات الإنسانية. وحق التنمية الذي أشارت إليه مواثيق الأمم المتحدة يندرج تحت عنوان الإعمار والحفاظ على الأمانة التي أشار إليها القرآن الكريم. 4 - العدل الاجتماعي والسياسي. العدل اسم من أسماء الله الحسنى ومن أوكد واجبات المسلم التخلق بقيم الله الحسنى وتجسيدها في مجال حياته الخاصة والعامة. ولذلك؛ فإن إقامة النظام السياسي والاجتماعي العادل هي من أجلى مظاهر العدل التي يقوم عليها التصور الإسلامي. والمقصود بالعدل السياسي والاجتماعي هنا: المساواة في الفرص بين المواطنين وتجنب كل أشكال الحيف والتمييز على أساس الدين أو اللون أو المذهب مع ضمان التكافؤ في الفرص وإمكانات الكسب والترقي المادي والمعرفي. وعلى رغم أن مدارس الفكر الإسلامي قد كان لها فضل إبراز مبدأ العدل الإلهي وما يلازمه من اعتراف بقيمة الحرية والمسئولية الإنسانية؛ فإن هذا المبحث قد غلب عليه الطابع العقائدي المجرد واستغرقته القضايا الكلامية الصورية، في مقابل ذلك لم يتم تناول موضوع العدل السياسي والاجتماعي إلا على سبيل التلميح. إن من أولويات الفكر الإسلامي الحديث هو الامتداد بهذا البُعد العقائدي إلى مستوى تعبيراته السياسية والاجتماعية التاريخية وتحويل هذه القيمة من مجال السجالية الكلامية إلى الحيز الاجتماعي الحي. كما أن من المهم توجيه الانتباه إلى أن قيمة العدل تتساوق مع الحرية أو هي بصيغة أخرى الوجه الآخر للحرية؛ لأن لا معنى للعدل الاجتماعي أو السياسي إلا في إطار من الحرية الكاملة. ومن المعلوم أن الفكر الإسلامي التقليدي قد غلب قيمة العدل على الحرية واكتفى عموماً بتحويل قيمة الحرية إلى مجرد مواعظ أخلاقية لا غير، مقابل تأكيد مبدأ العدل بصفتها خصلة فردية من خصال الحاكم، وعلى هذا الأساس وجب إعادة التوازن إلى الفكر السياسي الإسلامي بتأكيد أولاً مبدأ العدل على أنه قيمة اجتماعية سياسية وبنية علاقات عامة لا مجرد خصلة فردية، وثانياً اعتبار قيمة الحرية متساوقة ومتساندة ضرورة مع العدل، بل لا معنى للعدل والمساواة من دون الحرية؛ لأن الحرية هي باختصار شديد الوجه الآخر للعدل. 5 - مبدأ التعاقد. إن مبدأ التعاقد (إقامة العلاقات السياسية والاجتماعية على أساس دستوري) يعد قيمة راسخة في مبنى العقيدة الإسلامية ومجال الاجتماع الإسلامي وليس عنصراً مستحدثاً في مجرى الوعي والتاريخ الإسلاميين. ففي مستوى التصور الإسلامي ترتكز علاقة المسلم بالألوهية على حال التعاقد التأسيسي الأول أو ما أسماه القرآن الميثاق الغليظ بين الله سبحانه وبين عموم الخلق الإنساني الذي كان آدم (ع) رمز شهوده.مرتكزات الاتجاه التعددي
التوحيد منطلقاً للمساواة والتعدد
الفطرة منطلقاً للكرامة والحرية
الاستخلاف منطلقاً للحقوق والتنمية
العدل الإلهي منطلقاً للعدالة الاجتماعية
«صحيفة المدينة» منطلقاً للتعاقد الدستوري
أما على مستوى التجربة التاريخية الإسلامية فقد كانت وثيقة «صحيفة المدينة» التي دونها الرسول (ص) لتنظيم العلاقات السياسية العامة في المدينة بين المسلمين والمشركين من عرب المدينة وقبائل اليهود والنصارى أول عقد سياسي مدون ومنضبط في التاريخ السياسي الإنساني، كما كانت هذه الوثيقة (صحيفة المدينة) ذات سبق في تأسيس قيم التسامح والتعددية الدينية في الدولة الإسلامية التي قامت على أسس تعددية. وبموجب هذه القيم التأسيسية الكبرى أصبح التعاقد آلية راسخة في حياة المسلمين الفردية والعامة.
وعلى رغم أن التاريخ السياسي الإسلامي لم يكن تعبيراً وفيّاً ولا منسجماً في الغالب مع الثورة الأخلاقية والروحية التي أحدثها الإسلام بحكم سيطرة قيم القبيلة وتأثيرات الحكمين الروماني والفارسي القديمين؛ فإن هذا الغياب التاريخي لم يلغ قيمة التعاقد السياسي التي بقيت محل تأكيد في الخطاب السياسي القديم والحديث.
العدد 3471 - الخميس 08 مارس 2012م الموافق 15 ربيع الثاني 1433هـ