صحيح أن الصورة هي الأكثر قدرة على التوصيل. العرب لم تعنهم الصورة إلا في علاقاتهم الضيقة. السياسة أفسدت نبْل وتوجّه الصورة. رأت فيها فضولاً تجاوز القاعات إلى غرف النوم. حتى صورة امرأة تقتات على النفايات باتت تهدّد السلْم الأهلي. الفقر عار حين يرصده العالم. حين لا يفعل هو واحد من مورثات وإنجازات السياسة العربية اليوم. الدولة التي لا ترتفع فيها مؤشرات الفقر - عربياً - هي دولة فاشلة لأنها لم تخلق ولم توجد إلا والفقر رديفها.
كأنَّ الصورة - عربياً - هي المعنى النهائي الذي يهدّد الكيان والوجود. لا يحتاج العربي اليوم إلى استجواب الصورة ووضعها على المحكّ. كأنه بذلك يضع نفسه على المحكّ نفسه. هو يرى أنه لم يخلق لذلك. هو خلق ليضع الآخرين في تلك التجربة، بغضّ النظر عن إمكانات ذلك الوضع وأهليته.
لاقطُ الصورة كوَّن أو كتب نَصّها قبل أن تأخذ مكانها رقماً في الرصْد. ذهابك إلى التقاط صورة أمر، وقبل التقاطها ربما بثوانٍ أمر آخر، وقبل القبض عليها بأجزاء من الثانية أمر ثالث، وحين القبض عليها من زاوية ولحظة حساسيتها أمر رابع. بين لحظة وأخرى تدرّج وإعادة صوغ لنص الصورة قبل هيئتها. إعادة صوغ لنص الصورة والكلام عليها. حس لا ينتهي وبانتهائه ستتبدَّى رجفة في الصورة يمكن تلمُّس شيء فيها وإن بدتْ في أحسن هيئة.
في لقاء صحافي يتيم أجريته مع القاص والروائي والفوتوغرافي حسين المحروس لم أجد تعريفاً يقترب من مساحة إنجازه في المستويات الثلاثة بكل تناغمها وتداخلها وترابطها سوى، شاعر اللقطة بامتياز. لا يتعلق ذلك بقبضه الحسَّاس على اللقطة ضمن حيِّز ودائرة وفضاء العدسة. الأمر نفسه ينطبق على اشتغاله السردي. ثمة تناغم وعلائق لا تغفلها إلا عين ليست في محجرها. ليست في مكانها. في مكان آخر لا تراه ولا يراها. معها تنطفئ الحساسية. تنطفئ اللقطة وجدواها أساساً.
الصورة في السياسة العربية متحركة بحسب مقتضيات الحال، وثابتة بحسب المقتضى نفسه. لكن في أغلب الأحيان هي ثابتة، تماشياً مع الجمود في الأداء نفسه. سياسة أدخلت الواقع في ثلاجة زمن لم يعد صالحاً لتنفس هوائه. وبات من العار الانتماء إليه.
أية صورة يمكن أن تحتوي واقعاً بكل هذا الحشد من الانهيارات والكوابيس والفشل والقمع والتراجع الذي حجز مكانه لسنوات ضوئية بعيداً عن المستقبل؟ الإطار يُحكم قبضته على الصورة. الصورة تتلاشى في إطار عملاق من العدم. الصورة في عدمها هي الأخرى.
الصورة اليوم عبر أكثر من وسيلة ووسيط خارج دائرة هيمنة ورقابة الإعلام العربي. تقدّم الصورة المُهرّبة السياسةَ العربية في إقامتها من دون رتوش. بدءاً من أحزمة الفقر، مروراً بأحزمة القهر، وليس انتهاء بقلاع القمع التي تفتح أبوابها لحظة بروز أو نشوء صداع يمكن أن يتسبّب في جرح مزاج الممسكين بمفاصل القرار والإرادات!
لا يمكن الالتفاف على الصورة في الخارج. العين هناك غير قابلة للحَوَل الاصطناعي. قد تنجح المكنة الإعلامية في الداخل في تسويق وتحشيد المنتفعين لنفي واقع الصورة ونصّها. لكن من قال إن نفي الحقيقة يقتلها؟ كلما كثر النفي كلما كان ذلك إيذاناً بنفخ أكثر من روح فيها. أكثر من معنى وروح للصورة نفسها من جهة أخرى.
الصورة باعتبارها وثيقة حس، قبل أن تكون وثيقة ملامح لأشخاص وأمكنة وأوقات بكل تقلباتها وتحولاتها. وثيقة حس بمعنى قدرتها على التأريخ لحالات ولحظات ومواقف انفعال وعواطف في حال من العفوية. في حال من الغفلة، بعيداً عن التصنّع. ذلك جزء مهمل في مساحة كبيرة من تاريخنا وعاطفتنا العربية حديثاً، عدا فتاوى قبل أكثر من 80 عاماً أو تكاد تتاخم القرن بلعن وتحريم الصورة (الرسم) باعتبارها محاكاة لصنع الخالق وتجرؤاً عليه!
والذين تصدّوا لبروز ونشوء تلك الوثيقة (وثيقة الحس) هم من المغضوب عليهم والضالين في مجتمعاتهم. من ذوي الفتن المُحْدثة التي تهدّد حال التخلف والتراجع وأمراض الريبة لسبب أو من دون سبب. في مجتمعات أبرز بناها النفسية وأوهنها الريبة.
نرصدنا حين نذهب إلى الصورة متسلحين بحساسية استثنائية. نرصد أوبئتنا في الداخل، عُقَدنا، انفصالنا عن العالم من حولنا، قبل أن نرصد الفضاء المهمل فينا. لحظات انكسار، انفعال، غبطة، فرح، انفلات، عبث، مجون، طهْر، براءة وحتى استعداد لإرسال هذا العالم إلى حتفه مع تحميله مصروفات كل ذلك!
الصورة نحن، بعيداً عن زيفنا في ذروة حساسيتها ومباغتتها، بعيداً عمّا نريد، وبعيداً عن الشرط وأشياء أخرى، من بينها شرط الحياة. الصورة ضد الشرط.
أعيد ما كتبته في ثنايا هذا المقال ولكن بصيغة أخرى. ثمة أزمة. ثمة شح وندرة في التأريخ للحس من حولنا. الصورة هي القادرة بامتياز على ذلك الفعل. صديقي حسين المحروس واحد من حرّاس ومتعهدي ذلك التوجه في التأريخ. التأريخ الذي يأخذ بيدنا إلى مستقبل ذلك الحس. مستقبلنا.
السياسة العربية لا تهتم بصورتها أمام العالم، وإن حدث فبغباء فاقع؛ بدليل شيخوختها وخَرَفها اللذين مازالا يمارسان مراهقتهما واحتلابهما للأعمار والفشل في واقع لا شبيه له واستثنائي في تراجعه وارتداده.
ما يهم السياسة العربية في صورتها، أن يكون الداخل محكم الحصار عليه. أن تجيّر أجهزة الدعاية والإعلام للتطبيل لإنجازات لم تنجز. هي فقط برسم الوهم، وستبقى كذلك ما بقيت الشيخوخة وبقي الخَرَفُ في الأداء.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3470 - الأربعاء 07 مارس 2012م الموافق 14 ربيع الثاني 1433هـ