ليس هناك من كلمة هذه الأيام، فيما نعتقد، انتشرت على كل شفة ولسان في البحرين، مثل كلمة الإصلاح: السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، القضائي، الإداري... وهي جميعها تعني الترابط بين كل هذه الإصلاحات وتأثيراتها المتبادلة، وتوفر مدلولا يعني إصلاح النظام.
وفعلا فأينما وجدت نفسك، ومع من تتحدث، في معظم المناسبات، سيكون لكلمة الإصلاح، ومناقشة مفهومه ومعانيه، وآليات تحقيقه وآفاقه، وآثاره ونتائجه، الأسبقية، والأولوية على ماعدا ذلك من أحاديث النخب في المجالس، الديوانيات والمنتديات.
فهل كان ذلك مصادفة؟ أو انه جاء في وقته ومن أسبابه ما هو معروف والآخر يحتاج إلى بحث واجتهاد؟ وهل كل ذلك مفتعل لإلهاء المجتمع عن واقع صعب محتدم كانوا يعانونه وما زالت آثاره ماثلة في العلن؟ كلا ليس كذلك أبدا. فالحديث عن الإصلاح أو عن تصحيح ما طرأ من سلبيات جاء بعد استمرار أزمة سياسية محتدمة بدأت منذ حل المجلس الوطني 73-1975 وغياب الرقابة الشعبية ما أدخل البلاد والعباد في أتون مواجهة محتدمة، جمدت الحياة السياسية وتسببت في أزمات اقتصادية، أحدثت تململا في الأوساط الشعبية كافة التي عانت من أزمات العمل وفقدان مصادر الرزق، وشيوع مظاهر الفساد المالي والإداري وظهور طبقة من الطفيليين الذين راكموا الثروة والمال واكتسبوا الجاه على حساب غيرهم من خلال التقرب من أصحاب القرار والسلطان، كما تسببت في استياء قطاعات المال والأعمال الذين عانوا الأمرين من جراء غياب المنافسة الشريفة في سبيل الحصول على المناقصات الحكومية من غير قنوات خلفية من وراء الستار توصلهم إلى تلك الموافقات أو من خلال مال يدفعونه تحت الطاولة إلى من يجهلون - ونحن معهم - شخصه أو أسمه ولا يشعرون بغير ثقل وطأة ظلمه ونفوذه... ونتج عن تراكم هذه المشكلات أزمة اجتماعية عصفت بالمجتمع وباعدت بين المواطن والحكم حتى أضحى انعدام الثقة وتزايد الشك المتبادل والريبة، هو سمة العلاقة بين الطرفين.
وتطور ذلك إلى أزمة سياسية امتدت إلى مواجهات أمنية أخذت شكلا عنيفا دفع فيها الوطن في تسعينات القرن الماضي - وقبله أيضا - أكثر من 40 شهيدا وآلاف السجناء والمبعدين والمهجرين والموقوفين الذين غصت بهم السجون والمعتقلات ، كما أُطلقت خلالها أيدي الجلادين والمعذبين - دونما رادع أو رقيب - اتكاء على قانون أمن الدولة السيئ الصيت.
تلك هي الأزمة التي عصفت بالوطن في التسعينات، على رغم أن بدايتها تعود إلى العام 1975م حينما حُل المجلس الوطني وجمد العمل فعليا بالدستور... لكنه القمع والتململ الشعبي وقوة الحركة المطلبية والشعبية التي تبلور عنها حركة سياسية معارضة قوية انفجرت في التسعينات، وتلك هي سمة الحراك الاجتماعي، حين تتراكم المشكلات والأزمات التي لا تجد من يعالجها في حينها... فتشكل أزمة سياسية تطال حاضر ومستقبل الوطن.
ما سبق شكل مجمل الأسباب التي دعت القوى السياسية والحكم معا إلى استشعار أهمية الدخول في عملية سياسية تنزع فتيل الاحتقان والمجابهة. وحين اعتلى جلالة الملك سدة الحكم فقد نضجت الظروف الموضوعية للبدء بخطوات الانفراج الأولي بصورة تدريجية متخذة شكل إجراءات لمعالجة تداعيات الممارسات القمعية السابقة، وخطوات تعيد شيئا من الثقة والاطمئنان المفقودين وشكل طرح ميثاق العمل الوطني حلا مقبولا من كل الأطراف للمأزق الذي عانت منه المملكة، ترافق معه تحقيق عدد من المطالب التي ساعدت على حدوث انفراج من خلال إلغاء قانون أمن الدولة وإطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين وعودة المنفيين والمبعدين وتفعيل الدستور. تلا ذلك اتساع مجالات ومدى حرية التعبير والنشر واحترام حقوق الإنسان وتأسيس الجمعيات والنقابات.
والآن مع بلوغنا هذه المرحلة وهي ليست قليلة فأين أصبحنا؟... لقد كان أول المؤشرات السلبية بعد إطلاق حركة الإصلاح والتحديث هو بروز أطراف معروفة بمواقعها ونفوذها ومكشوفة أساليبها، تتقن اقتناص الفرص بل التصيد والتسلق، راحت - لأسباب مفهومة ومعلومة - تطلق المدائح وتعلن عن تعاطفها مع الإصلاح من دون أن تتقدم باقتراح واحد عملي ومفيد. فيما هي تستمر على سلوكها القديم المعروف، بل تمادت في ذلك وبدأت تضع العصا في العجلة.
فتارة تحت عنوان «الاشتغال والانشغال» وأخرى تحت لافتة تعميمات تُصادر حقوق النقابات والموظفين، وقبل ذلك التلاعب بتوزيع الدوائر الانتخابية ومعه قانون ازدواج الجنسية. واخيرا قانون الصحافة والنشر. وكان طبيعيا أن يؤدي كل ذلك إلى إدخال نوع من الشك - نأمل ألا يتسع - بين الأوساط السياسية والشعبية ذات المصلحة في الالتفاف حول الإصلاح ومستقبله.
وكان ثاني هذه المؤشرات السلبية هو إصرار أطراف - ليست قليلة - على أن كل إصلاح حقيقي ينبغي أن يبدأ بتعديل الدستور، أو ترى أن النظام لم يعد قادرا على متابعة القيام بأية إصلاحات. وفي ذلك قمة الخطورة على الوطن والمواطن ومستقبل الأجيال، نظرا لما يعنيه ويذكر به من حوادث مريرة سابقة، ولما يمكن أن يتركه داخل المؤسسة السياسية التي يفترض أن تكون هي نواة الإصلاح الحقيقي وقوته الفاعلة - بمؤازرة من مختلف الفئات السياسية والشعبية والديمقراطية والمجتمع المدني - ذات المصلحة في استمرار نهج الإصلاح وقطع الطريق على العودة للماضي المرير.
واليوم إذا أعدنا قراءة اللوحة الراهنة واستعدنا مشاهد من مفاصل وزوايا القضايا المرتبطة بشتى مسائل التحديث والتطوير عموما التي جرت في المملكة منذ اعتلاء جلالته سدة الحكم تحديدا. نتوصل إلى عدد من الاستنتاجات الأولية التي يقتضي الموقف المرور عليها وجيزا.
وأولى هذه الاستنتاجات أن كل إصلاح لكي يصبح هدفا يتبناه المواطن ينبغي أن يقتنع به ويلمس منافعه. ولو عبر تدابير متدرجة الهدف منها الارتقاء بأوضاع الوطن، ليصبح وطنا للجميع، وبأوضاع أبنائه بفئاتهم كافة. وخصوصا الفئات المحرومة والكادحة العاملة في شتى ميادين الإنتاج والخدمات.
وثاني هذه الاستنتاجات أن كل إصلاح مهما كان الأسلوب البياني أو الأدبي الذي يصاغ به، ذو محتوى طبقي ينبغي أن يشعر بإجرائه معظم الناس، من منظار مصالحهم الخاصة أولا ثم العامة، ومن هذا المنطلق يمكن ملاحظة هذا الصراع العلني والخفي حول الاتجاهات التي ينبغي أن تسلكها مسيرة الإصلاح... الشكلي واللفظي له دعاته التي لا تلامس الجوهر. والحقيقي الذي يعالج الأوضاع الشاذة والفاسدة.
ويتصدى لمشكلات المواطن من فقر، تدني الأجور، تمييز، تجنيس سياسي، تعديلات دستورية، حقوق الإنسان وحرية التعبير، البطالة والعمل. ولا نجافي الحقيقة والواقع إذا تحدثنا عن نوعين من دعاة ورجال الإصلاح، الأول يريد الحفاظ على ما تحقق من مكاسب ومنجزات ويبني عليها المزيد ويعمل لإزالة العقبات والنواقص التي حالت من دون متابعة السير على هذا الطريق. وآخر يريد إحباط استكمال وثبات تلك المنجزات ويعمل لذلك بوسائل مختلفة، تعاميم إدارية، توقيف النقابيين عن العمل، قانون المطبوعات، قوانين تحمي المعذبين والجلادين وتمنع محاكمة منتهكي حقوق الإنسان.
وبقى أن ندرك بتمعن أن اخطر ما يتهدد مسيرة الإصلاح وبالتالي مستقبل الوطن، هو استمرار الركود الحالي في هذه المسيرة ووصول جموع المواطنين أصحاب المصلحة الحقيقية في كل إصلاح، إلى قناعة بأن الإصلاح مستحيل، وبأنه فشل فشلا ذريعا وبالتالي فإن عليهم الانفضاض من حوله والداعين له للبحث في وسائل أخرى تقربهم من غايتهم. ولذلك فإن المصلحة العليا الوطنية تقتضي من جميع دعاة الإصلاح الحقيقي الذي يرتقي بالوطن والمواطن اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا، أن يتعاونوا ويوحدوا جهودهم المخلصة.
ونعتقد مخلصين أنه ينبغي على أصحاب القرار أن يوقنوا أن التعاون مع كل فئات وقوى المجتمع المدني والنقابي والنشطاء السياسيين والحقوقيين والاختصاصيين وكبار المثقفين. مهما كانت انتماءاتهم السياسية، من أجل إنجاح مسيرة الإصلاح وضمان تغلبها على الصعوبات والعقبات التي توضع أمامها. ومن غير شكل فإن لإدامة قنوات التواصل والحوار المستمر دورا كبيرا في هذا المجال. ليمكن بذلك التدليل على أن ما تواجهه مسيرة الإصلاح ليس الفشل. وإنما مجرد صعوبات يمكن للمخلصين أن يتغلبوا عليها دونما نكوص وعودة إلى اوراء
العدد 347 - الإثنين 18 أغسطس 2003م الموافق 19 جمادى الآخرة 1424هـ