(ملاحظة: هذه بعض مقالات نشرت في كتاب «مداخلات في الفكر والسياسة... نحو تأصيل إسلامي للنهج التعددي» من تأليف رئيس تحرير صحيفة «الوسط» البحرينية منصور الجمري في 2008، ويعاد نشر أجزاء منه لارتباطها بتطورات الربيع العربي الذي أوصل اتجاهات إسلامية تؤمن بالتعددية الى سدة الحكم. كما ان المقالات كتبت في نهاية التسعينيات من القرن الماضي في لندن، وبعضها كان نتاجاً لتفاعلات فكرية مع زعيم حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي، ووزير الخارجية التونسي الحالي رفيق عبدالسلام).
****
تتحدث مفاهيم الحرية التي عبر عنها فلاسفة الغرب عن وجود حقوق طبيعية مرتبطة بطبيعة الإنسان، وان هذه الحقوق غير قابلة للفصل عن طبيعة الإنسان. هذه الحقوق الطبيعية هي الحرية، والمساواة والحق في السعي لحياة حرة كريمة، والحق في الملكية الخاصة. منظومة المفاهيم هذه تداولها الفلاسفة وأدخلوا عليها تطويراً هنا وهناك، ولكن بقي المنبع لهذه الفلسفة أصحاب ما يسمى «مدرسة القانون الطبيعي». هؤلاء الفلاسفة آمنوا بوجود قانون طبيعي يسمو على كل شيء وان الحقوق الطبيعية نابعة من هذا القانون. وتأسيساً على هذه الحقوق الطبيعية نتجت منظومة من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية والبيئية.
يقول المستشار السياسي السابق في الإدارة الأميركية في عهد نيكسون، روبرت كراين الذي أشهر إسلامه في سبعينيات أو ثمانينيات القرن الماضي ان «مدرسة القانون الطبيعي التي اعطت الغرب (أوروبا وأميركا) حضارته، انما هي تأثير من المدرسة الإسلامية التي تؤمن بمبدأ الفطرة الإنسانية، وهذه المدرسة سبقت الفلسفة الأوروبية بعدة قرون، قبل ان تصل إليها وتتطور على منظومة الحقوق الطبيعية للإنسان».
ويشير كراين إلى ان الفكر الإسلامي الذي طرح مفهوم المقاصد والكليات نرى اثره في مفاهيم فلاسفة الغرب الذين مهدوا لنهوضه. فهؤلاء الفلاسفة مثلاً طرحوا مفاهيم أساسية عن «النظام والعدالة والحرية» ورأوا ان هذه العوامل مترابطة ولا يمكن فصلها عن بعضها الآخر.
القرآن الكريم يشير إلى الفطرة الإنسانية ومتعلقاتها في قوله تعالى: «فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله» (الروم: 30)؛ «ولقد كرمنا بني آدم» (الإسراء: 70)؛ «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً. إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً. إنا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً» (الإنسان: 1 - 3)؛ «من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها» (فصلت: 46)؛ «يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم» (الحجرات: 13).
ولشرح التكريم يقول السيدمحمد حسين الطباطبائي في تفسير «الميزان»: «ان التكريم معنى نفسي، وهو جعله شريفاً ذا كرامة في نفسه»، والإنسان يختص من بين الموجودات الكونية بالعقل ويزيد على غيره في جميع الصفات والاحوال التي توجد فيها والأعمال التي بها.
التعاقد الاجتماعي الذي اعطانا مفهوم الدستور له جذوره الواضحة في المدرسة الإسلامية، اذ تعتبر «صحيفة المدينة» التي أصدرها الرسول (ص) عندما اقام حكومته في المدينة المنورة (العام 623م) أنموذجاً للتعاقد، إذ اتفق من خلالها مع المسلمين واليهود والمشركين (أهل يثرب) على قواعد أساسية وتعاقدية يدافع كل طرف عن الآخر لحماية المدينة المنورة، ويضمن لكل طرف الاحتفاظ بمعتقداته من دون اكراه، وتعتبر هذه الصحيفة اقدم وثيقة تعاقدية من نوعها. بل ان القرآن الكريم طرح مفهوم التعاقد حتى في ابسط الأمور، وهي الاستلاف «يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل...» (البقرة: 282).
تتصدر «صحيفة المدينة» عبارة مهمة تقول: «هذا كتاب من محمد بن عبدالله النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس» (انظر «السيرة النبوية» لباقر شريف القرشي).
ويشير الشيخ راشد الغنوشي إلى أن «صحيفة المدينة» عندما تتحدث عن «أمة واحدة من دون الناس» انما تتحدث عن الامة السياسية وليست الامة الدينية. الامة الدينية (الإسلامية) ترتبط بشيء اكبر من «صحيفة المدينة»، لأنها ترتبط بالرابطة الدينية (الأخوة الإسلامية) التي تحدث عنها الإسلام كثيراً. والرابطة الدينية تعلو فوق الجغرافيا والتاريخ، بينما الرابطة السياسية محدودة بالجغرافيا وبالزمن.
ولذلك فان الرسول (ص) قال عن «حلف الفضول» الذي عقد في الجاهلية للدفاع عن المظلوم، انه يعتبره قائماً وملزماً عليه. وهو حضره شخصيا قبل الاسلام، اذ قال (ص): «لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبدالله بن جدعان لو دعيت به في الاسلام لأجبت». وهذا التعاقد هو الاساس لرعاية مصالح الناس العامة على اساس المشاركة والتعاون.
يقول الشيخ ميثم البحراني (توفي في 1299م) وقبره حالياً في الماحوز/ أم الحصم (المنامة) في كتابه «شرح مائة كلمة للإمام علي» إن الحكمة العلمية ثلاثة اقسام «حكمة خلقية، وحكمة منزلية، وحكمة سياسية. وذلك لان كل عاقل لابد ان يكون ذا غرض في فعله. وذلك الغرض اما ان يكون مختصاً به في نفسه وهو علم الاخلاق (الحكمة الخلقية) واما يكون مختصا به مع خواصه وأهل بيته وهو علم تدبير المنزل (الحكمة المنزلية) واما ان يكون عائداً إلى الإنسان مع عامة الخلق، وهو علم السياسة».
ويضيف الشيخ ميثم البحراني: «وقد يزاد في الاقسام رابع، وهو غرض الإنسان بالنسبة إلى مدينته، وتسمى حكمة مدنية، وهو تعلم تدبير المدينة بكيفية ضبطها ورعاية مصالحها. وهذا علم لابد منه، لأن الإنسان مدني بالطبع، فما لم يعرف كيفية بناء المدينة وترتيب اهلها على اختلاف درجاتهم لم يتم مقصوده».
ويشرح الشيخ ميثم البحراني «الحكمة المدنية» بالقول هي «كيفية المشاركة فيما بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الابدان ومصالح بناء نوع الإنسان».
ان حديث الشيخ ميثم البحراني (الذي كتب قبل أكثر من 700 سنة) ليس بعيداً عن الطرح المتداول حالياً بشأن المحافظة على حقوق الناس.
عندما نتحدث عن التقارب الشديد بين مدرسة القانون الطبيعي التي أنتجت منظومة حقوق الإنسان، والمدرسة الإسلامية، فاعلم ان هناك الكثير من المفارقات المطروحة على ارض الواقع. وهذه المفارقات والتحديات - في اعتقادي - قابلة لإعادة فهمها في ضوء الظروف الزمانية والمكانية من دون الاخلال بأساسيات الدين. وهذا الأمر ليس خافياً على علماء المسلمين، بل ان أبا اسحق الشاطبي (توفي في 1388م)، وهو من المغرب العربي والمقارب عصره لعصر الشيخ ميثم البحراني، طرح نظرية «مقاصد الشريعة»، وهي من اهم النظريات التي ارتكز عليها كثير من مفكري الاسلام في عصرنا الحديث (بدءاً بمحمد عبده) لتأصيل منظومة حقوق الإنسان إسلامياً.
الشاطبي قال إن احكام الشريعة تستهدف مقاصد اساسية وهي الحفاظ على «الدين والنفس والعقل والنسل والمال». وهذه الأسس الخمسة تحتوي على كثير من الحقوق الطبيعية، كحق الحياة وحق التملك، وحق التحصيل العلمي وحق حفظ النفس من الأذى. لقد اعتبر الشاطبي هذه المقاصد من الضرورات الشاملة لجميع احكام الدين. وواضح من تسلسل الضرورات ان الشاطبي (ومعه علماء آخرون قبله كالجويني والغزالي) قدموا «الدين» على «النفس والعقل والنسل والمال». الدين هو ما يسمى احيانا في التراث الاسلامي «حق الله» و «حق الطاعة» إذ يقول عز وجل: «وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون» (الذاريات: 56)، «ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» (النساء: 48).
اما الأسس الأخرى فتشمل حقوق البشر، حقوق الإنسان التي لا يستقيم العدل الا بحفظها «لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط» (الحديد: 25)، «وما جعل عليكم في الدين من حرج» (الحج: 78).
وواضح ان الاختلاف في مفهوم «مقاصد الشريعة» - لدى الشاطبي - مع مفهوم حقوق الإنسان المتداول عالمياً، هو تضمين وتقديم حق الله على حق الإنسان. على ان هذا التسلسل المطروح لدى الشاطبي ربما متأثر بكونه من الأشاعرة. فالأشاعرة يختلفون مع المعتزلة والإمامية في أنهم لا يفصلون بين الله وصفات العدل والجمال وغيرها. إذ يعتبرون العدل هو كل ما يفعله الله، ولا توجد للعدل - مثلاً ـ صفة مستقلة عن الذات الإلهية. بينما يرى المعتزلة والامامية ان الصفات - وأهمها صفة العدل ـ مستقلة عن الذات الإلهية ويمكن فهمها بشرياً وعقلياً. ولذلك لا يجوز الأشاعرة الحديث عن الصفات بصورة مستقلة.
المفكر الإسلامي الشيخ طاهر بن عاشور (وهو من تونس وتوفي مطلع السبعينيات وكان قد التقى محمد عبده وتأثر به) طرح فهماً حديثاً لـ «مقاصد الشريعة» وقال ان الهدف (المقصد) الأساسي للشريعة هو حماية الفطرة الإنسانية وضمان حرية ارادتها (والفكرة الأخيرة ذكرها لي شخصياً الشيخ راشد الغنوشي في حديث حول هذا الموضوع).
هذا الفهم المتطور لمقاصد الشريعة بدأ يتداول أخيراً في الأوساط الإسلامية. وقد خصصت اهم مجلة فكرية تصدر باللغة العربية في قم المقدسة بإيران «قضايا إسلامية معاصرة» عدة أعداد في الأعوام الماضية عن هذا الموضوع المهم، ودعت لإحياء علوم مقاصد الشريعة وفلسفة الفقه.
ولدينا من علماء المسلمين كالسيدمحمد باقر الصدر ممن طرحوا مفهوم «منطقة الفراغ» الذي يسمح للإنسان بتداول الرأي فيها واتخاذ قرار بشأنها، كما يمكن اعتماد «اسس منطقية استقرائية». وهذا الطرح لا يختلف في جوهره عن الرأي الذي يعمل به عدد من المناهج المؤمنة بحقوق الإنسان.
وعموماً يتفق الإسلاميون على ان العقيدة هي أساس حقوق الإنسان وان حقوق الإنسان تقع ضمن الاستخلاف الإلهي للإنسان. وكما يعبر أحدهم: «إن الإنسان في الإسلام مستخلف عن الله وضمن عهد الاستخلاف تنزل جملة حقوقه وواجباته ويتم التوفيق والتلازم بين الحقوق الفردية والمصلحة العامة»
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 3468 - الإثنين 05 مارس 2012م الموافق 12 ربيع الثاني 1433هـ
مع التأصيل والتطوير
صيغ الحياة الدموقراطية من مبتكرات العقل البشري لكن لو تمعنا جيدا سنجد كثير من مبادئها وثوابتها منصوص عليها في الشريعة السمحاء.لذلك لاحاجة فيما أرى بالتطويع الحتمي لمفهوم النهج السياسي التعددي مع الدين.منطلقات الفكر البشري يجب أن لا تكون من الدين بل عليها أن تلتزم بضوابطه في النتيجة
ملخص الكلام الديانات السماوية هي القمة لخير البشرية
قد يقصر أو يقصّر التشريع البشري في صالح الانسان ولكن لا تجد تشريعا سماويا به قصور او ثغرات. ربما يبدو ذلك للبعض في بعض التشريعات السماوية وهذا ناتج عن الخلل في التشريعات الارضية نفسها وإلا فالتشريعات السماوية كلها تصب في خير الانسان لأن من شرعها هو خالق هذا الانسان وهو اعرف بمصلحته.
للاسف البعض يذهب يمينا ويسارا يشرق ويغرب والحل موجود اسلاميا ولكنه يصد عنه كونه اسلاميا.
المشكلة الوحيدة في التشريعات السماوية هي في سلامة النصوص من التحريف بسبب قدم هذه النصوص
عيني عليك
شكرا جزيلا ، ودمتم بخير ، فلربما هذا الموضوع من أحسن ما كتبت يامنصور الجمري . ودمتم
كم نحن بحاجة لهذا الفهم ولهذا التطبيق
كم نحن بحاجة لهذا الفهم ولتطبيق هذا الفهم؛ جزاك الله خيرًا ان بذلت وما زلت تبذل جهدك في تبيان ونشر الوعي..