العدد 3467 - الأحد 04 مارس 2012م الموافق 11 ربيع الثاني 1433هـ

جانب من التأصيل الإسلامي للنهج السياسي التعددي (1-5)

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

(ملاحظة: هذه بعض مقالات نشرت في كتاب «مداخلات في الفكر والسياسة... نحو تأصيل إسلامي للنهج التعددي» من تأليف رئيس تحرير صحيفة «الوسط» البحرينية منصور الجمري في 2008، ويعاد نشر أجزاء منه لارتباطها بتطورات الربيع العربي الذي أوصل اتجاهات إسلامية تؤمن بالتعددية إلى سدة الحكم. كما أن المقالات كتبت في نهاية التسعينات من القرن الماضي في لندن، وبعضها كان نتاجاً لتفاعلات فكرية مع زعيم حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي، ووزير الخارجية التونسي الحالي رفيق عبدالسلام).

***

الاتجاه التعددي في الوسط الإسلامي حاول اتخاذ الإسلام قاعدة فكرية للدخول في الساحة السياسية والقبول، بل تبني الكثير من الأطروحات المعاصرة عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان والتعددية السياسية (بين الإسلاميين أنفسهم، وبين الإسلاميين وغير الإسلاميين)، والدستورية، وغيرها من الأطروحات المتداخلة مع مفاهيم المجتمع المدني والحريات السياسية العامة طالما أنها لا تتعارض مع أساسيات الدين.

الحركات الدستورية في إيران وتركيا ومصر في مطلع القرن العشرين شهدت ظهور قيادات إسلامية ومراجع فقهية تتبنى أطروحات التمثيل النيابي والتقييد الدستوري لنظام الحكم والإيمان بالحقوق الأساسية للأفراد والمجتمعات، ولكنها أيضاً وُوجهت من قبل إسلاميين آخرين تحدوا - من وجهة نظر إسلامية - هذا الطرح.

إذا كانت الأسس التي اعتمدت عليها الاتجاهات الأخرى «نقلية» - بالأساس - تعتمد على الحديث والسنة، فإن الأسس التي يعتمد عليها هذه الاتجاه هي «عقلية» على الأغلب، تحاول «إعادة قراءة النص» بصورة غير تقليدية. والتركيز الأساسي، كما هو الحال مع الإمام محمد عبده (مصر) والشيخ محمد حسين النائيني (إيران) في مطلع القرن العشرين، هو محاولة الالتزام بالأصول الدينية من جانب، ومواكبة تطورات العصر من جانب آخر. الملاحظة المهمة الأخرى هي أن محاولة استخدام العقل تخضع لضوابط وأصول معينة يناقشها الفقهاء باستمرار.

الاتجاه التعددي يركز على «عدم إلغاء» الطرف الآخر سواء كان ذلك الطرف إسلامياً (من الناحية السياسية) أو غير إسلامي (من الناحية السياسية والدينية). وهذا القول ربما لا ينطبق على جميع القائلين بهذه الأفكار، ولكن الاتجاه العام يدفعهم إلى هذه النتيجة. هذا الاتجاه برز على السطح في مطلع القرن العشرين في تركيا ومصر وإيران، ولكنه ضمر بعد ذلك، ليعود مرة أخرى في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين الماضي (ووصل أتباعه مؤخراً إلى سدة الحكم بعد ثورات الربيع العربي في 2011). وهناك كثير من الكتاب والمثقفين والمفكرين الإسلاميين المدافعين عن هذا الاتجاه من زوايا ووجهات نظر متعددة.

الداعون لهذا المنطق يعيدون قراءة النص الديني ويحاولون التفريق بين الأصول الدينية الثابتة والكم الكبير من الأحكام التشريعية التي تحركت مع تطور الحياة وتعقدها وتراكم الخبرات الإنسانية بشأنها. وإذا كانت الاتجاهات الأخرى تركز على موضوع الواجبات الدينية على الإنسان، فهذا الاتجاه يركز على موضوع الحقوق الأساسية المترتبة للإنسان بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى. وهذا الطرح - بطبيعة الحال - يقترب من الأطروحات السياسية المعاصرة المنادية بحقوق الإنسان واعتبارها نقطة مركزية ينبغي أن تتمحور حولها النظم والتشريعات وهو أيضاً ما يجعله هدفاً سهلاً لاتهامه بالتأثر بالأفكار غير الإسلامية.


التعايش والحوار

التعايش والتسامح بين الجماعات لهما جذورهما في الإسلام عندما نسترجع كيف عاش اليهود والنصارى (وغيرهم عندما توسعت الرقعة الإسلامية) تحت حكم الإسلام، ولكن مع الأسف إن ذلك التعايش يتم التغاضي عنه، ولا ينظر إلا إلى الجانب التقنيني الخاضع لمعطيات ذلك العصر (مثل الجزية وغيرها). الأوروبيون من جانب آخر لم يعرفوا أي معنى للتعايش والتسامح في تاريخهم إلا بعد انتهاء القرون الوسطى (بعد العام 1500) وبعد الحروب الدينية الأوروبية في القرن السابع عشر. أما ما قبل ذلك ولقرابة ألف عام فقد كانوا يحاربون التسامح والتنوع والتعدد. خرج الأوروبيون من عصورهم المظلمة بعدما وصلت بعض الأفكار من الشرق الإسلامي (كأفكار ابن رشد وغيرها) وبدأوا ينظرون إلى حياتهم بمنظار عقلاني يختلف عما كانت تفرضه الكنيسة الكاثوليكية. الانفتاح الأوروبي على العقلانية أوصلهم إلى التعايش فيما بينهم وبين الآخرين، ومكنهم من الصعود بأفكارهم ومدنيتهم إلى مستويات أعلى من السابق. وبينما كانت أوروبا تخرج من عصور ظلماتها إلى نهضتها وتنويرها، كنا نحن المسلمين نتراجع من عصور عقلانيتنا وريادتنا إلى عصور متخلفة كرسها أسلوب الحكم الفاسد الذي سيطر على البلاد الإسلامية.

إن هذا كله يستدعينا أن نراجع الأفكار التي قد تتسرب إلى أي اتجاه من الاتجاهات الإسلامية السياسية التي لا تقبل بالتعايش السلمي بين مختلف الأطروحات. فالإسلامي إذا لم يستطع أن يتعايش مع الإسلامي الآخر، فإنه يغلق الباب أيضاً على إمكان التعايش فيما بين الإسلامي وغير الإسلامي. والمقصود بغير الإسلامي هنا، سواء كان مسلماً ولكن لا يعتنق فكراً سياسياً إسلامياً أو غير مسلم بالأساس. هذه الدعوة لم تعد تنطلق من حناجر الأشخاص الذين لا يرتبطون بالحركة الإسلامية، وإنما من أولئك الذين نشأوا وترعرعوا وخدموا مجتمعاتهم، وقلوبهم ومشاعرهم وأفكارهم وأعمالهم لم تنفك عن الإسلام.

الدعوة إلى التعايش السلمي - من خلال حكم القانون الدستوري - والتنوع والتعدد في الطرح هي العناوين الرئيسية الداخلة في أطروحة «المجتمع المدني» التي لم تعد محتكرة من قبل فكر معين، وخصوصاً بعدما طرحها الرئيسي الإيراني السابق محمد خاتمي في ديسمبر/ كانون الأول 1997 أمام رؤساء الدول الإسلامية وملوكها وفتح بذلك آفاق الحوار بين الحضارات والمجتمعات، ولاسيما داخل المجتمعات الإسلامية ذاتها. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في مطلع القرن الواحد والعشرين هو: ما مدى العمق والرسوخ والجدية المتوافرة في الأوساط الإسلامية وغير الإسلامية لإنعاش حالة الحوار بصورة سليمة تستفيد من جميع الخبرات؟ وهل أن ظهور حالة الانفتاح أخيراً ما هي إلا نشوة تعود إلى المسلمين كل مئة عام ثم تختفي؟

إن السعي الحثيث لتأصيل الاتجاه التعددي في الوسط الإسلامي يتطلب جهوداً فكرية متواصلة لكي تتعمق القناعات بشأن الموضوعات الرئيسية التي تواجه الإسلاميين أثناء ممارستهم دورهم في الحياة العامة. فلقد أصبح العالم يتكلم اليوم لغة تعتمد على قواسم فكرية مشتركة، تلك هي لغة الحقوق الإنسانية والحريات الأساسية، هذه تتطلب القبول بالتعددية، وهي تعددية ليست غريبة على الإسلام الذي طرحها في «صحيفة المدينة» عندما دخل الرسول (ص) يثرب وأسس حكماً وثقه في صحيفة تاريخية اعترفت بتعددية مجتمع يثرب حينذاك. لقد أصبح الخطاب التعددي في زماننا معياراً أساسياً لتحديد العلاقات والمعاملات بين التوجهات السياسية والقوى الاجتماعية داخل المجتمعات والدول ذاتها.

الإسلاميون ينبغي أن يكون لهم دورهم الريادي في هذا المجال، فهم الذين يحددون مسارهم بأنفسهم. وإذا تخلوا عن هذا الدور فإن هناك من سيطرح نفسه معلماً فوقياً للإسلاميين. فهناك من يرى أن التناقضات والأزمات والتشتت والتبعية التي أصابت عالمنا الإسلامي أدت بالإسلاميين إلى مجموعات تحن إلى عصر ذهبي ماضٍ وسيلةً للهرب من الحاضر البائس، وأن الأطروحات الإسلامية مازالت تتراوح بين «تنظير يبتعد عن الواقع»، أو «كلالة تخرجه من نطاق الفاعلية والقدرة على التطبيق»، أو «غوغائية ترمي به في مستنقع العنف بديلاً عن الحوار»، وأن هذا كله دليل على نضوب الأفكار

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 3467 - الأحد 04 مارس 2012م الموافق 11 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 10:13 ص

      من اجل ثقافة عامة مستقلة ومتجردة ... ابن رشد البارباري

      من الملاحظ أن الجماعة التي تمتلئ مساحة التعليقات بمداخلاتهم على مقالات الاستاد الجمري السياسية الخالصة لا تعجبهم او بالاحرى لا يفقهون في كتاباته المتصلة مباشرة بالثقافة ، فتراهم يغضون الطرف عنها وكأنهم لم يقراؤونها ، وهنا تبرز طامتنا الكبرى في افلاسنا الثقافي وما ينتج عنه من تبعيتنا للخطاب الديماغوجي المتقن لشتى فنون الكلام والخطابة ، ولهذا تجد الردود والتعليقات قليلة في المقالات ذات الصلة بالثقافة ، فتحية خالصة للأستاد الجمري ودعوة للقراءة المستقلة والمتنوعة من اجل تعميق الثقافة العامة

    • زائر 8 | 2:45 ص

      التعددية ضرورة ملحّة ومن يحاول ايقافها فإنه خاسر لا محالة

      لم يعد هناك اي طائل لايقاف التقدم الحاصل وتطور ثقافة الناس واضطلاعهم وسرعة انتشار المعلومات.
      إن محاولة العلاج بالطريقة القديمة لن يجدي نفعا بل على العكس من واقع التجربة في البحرين رأيناه يؤتي نتيجة عكسية تماما.
      البعض لا زال يصر على تجربة المجرب وبذلك يودي بالبلد الى المجهول.
      قفوا مكانكم وتأملوا هل نجحتم بهذا الاسلوب العقيم الذي تصرون عليه لمعالجة الازمة؟
      سترون انكم تعمقون الازمة ولا خلاص للبلد الا من خلال الوصول الى حل يرضي الجميع
      التعصب للحل الامني لا يجدي

    • زائر 7 | 1:26 ص

      الديماغوجية في الخطاب هي القاعدة السائدة للوصول الى سدة الحكم .... ابن رشد

      الاسلام السياسي يرتكز على قاعدة الديماغوجية للوصول الى السلطة ، معتمد على جهل سامعيه واللعب بعواطفهم ، مستند الى شتى فنون الكلام من دون اللجوء الى المنطق والبرهان . فالديمقراطية مفهوم حداثي لا تعيش وتكبر الا في دولة المواطنة ، وشتان بين الديمقراطية ومفهوم الشورى البناء الفوقي للدولة الاسلامية ، فهما مختلفان ومتناقضان ، فأما ان اقبل بالديمقراطية واقبل تبعاتها بفصل الدين عن الدولة واما ان اقبل الشورى واقبل معها دولتها الاسلامية ، لايمكن المزج بين المفهومين والقبول بهما في آن واحد وهنا طامتنا

    • زائر 6 | 12:21 ص

      صح قلمك أستاذي

      لو بس في اثنين منك في البحرين

      جان الدنيا بخير

    • زائر 3 | 12:08 ص

      جميل

      افكار رائعة واطروحات جميلة تعطي القارئ مفهوم التعددية ومدى الحاجة لها في وقتنا الحاضر.(كل تطور اساسه فكر نير ) بوركت يا استاذنا

    • زائر 2 | 11:57 م

      الحوار

      الحوار هو الآلية الصحيحة لبناء العلاقات و إصلاح الخلافات و هو المبدأ الإسلامي في التعامل العام, قال تعالى ( قل تعالوا إلى كلمة سواء ).

اقرأ ايضاً