هناك قطاع عريض من الناس يتابع الأفلام وعلى الأخص أفلام الكرتون باعتبارها محطة للاستجمام والراحة، ووقتاً للمرح والفكاهة، لكن الفيلم في الحقيقة له أبعاد تربوية وثقافية مهمة، وقد علقت رئيسة اللجنة الثقافية في البرلمان الأوروبي قائلة: «إن الأفلام وما تنطوي عليه من أبعاد ثقافية يجب ألا تترك لقوى السوق، وألا يتم التعامل معها كسلعة عادية مثل البطاطس والغسالات الكهربائية».
فيلم «الأسد الملك» Lion king في تقديري له علاقة وثيقة بمفهوم «الهوية»، فقصة الأسد الذي عاش منذ طفولته مع الحيوانات الأليفة (سامبا) حيث كان والده ملكاً عادلاً للغابة لكنه اختطف وتربى وسط بيئة أنسته وأفقدته هويته كأسد، فتصرّف بعد ذلك كبقية الحيوانات التي عاش معها وهي الدجاج والأرنب والخرفان. عندما نظر ذات يوم إلى صورته على سطح الماء رأى صورة أسد فخاف! لم يكن يعرف أنه أسد حتى جاء إليه أحد الحيوانات الضعيفة وذكّره بأنه أسد، وأن أباه أسد، ويستطيع أن يملك ويحكم الغابة ويقود المجتمع. وقصة الأسد الملك تشبه إلى حد كبير ربيع الشباب العربي اليوم الذي قرّر أن يكتشف ذاته.
هناك توجهٌ عالمي في ميدان الموارد البشرية يقوم على التدريب المبني على الجدارات، والجدارات تنقسم إلى قسمين: جدارات ظاهرة كالمعلومات والشهادة والثقافة، وجدارات كامنة كالثقة بالنفس ورباطة الجأش والمبادرة والاعتزاز بالذات. وبما أن الشباب في وطننا العربي يشكلون 30 في المئة من المجتمع وهي أعلى نسبة في العالم، لذا فمجتمعنا العربي يعتبر من المجتمعات الفتية عالمياً. ومن جانب آخر، فإن الشباب أجمل ما يملك الإنسان، فالطفولة صحة لا عقل لها، والشيخوخة حكمةٌ لا قوة لها، والمرحلة المفعمة بالصحة والمشحونة بالقوة هي مرحلة الشباب، وفيها يتشكل وعي الإنسان. لذلك فنحن معنيون بزيادة ثقة الشباب بنفسه وتمكينه والاعتزاز بهويته. يقول الإمام علي «حكيم الكوفة» بحسب تعبير الأديب المسيحي الرائع جورج جرداق: «عجبت لمن ينشد ضالته وقد أضل نفسه فلا يطلبها»! المعنى العظيم لهذا القول يكمن في أهمية معرفة الذات وعلاقته بهدفية وجود الإنسان في الحياة. فإحدى القضايا الرئيسية بالنسبة للإنسان وبالأخص الشباب، هو معرفة غاية وجوده ووضوح أهدافه حتى تتحقق المعرفة الذاتية. ويؤكد هذا المعنى مرتضى المطهري في كتابه «رحلة مع نهج البلاغة» بقوله: «غياب الغاية والهدف يؤدي إلى ضياع الذات».
نحن نشجّع الانفتاح على كل الثقافات، لكن لنبدأ أولاً بالتعرف على ثقافتنا ونتمسك بها حتى نتجاوز «أزمة الازدواجية الثقافية»، فالانفتاح مشروط بأن لا نتحوّل إلى شخصياتٍ ممسوخة. ولنا أن نتأمل كلام رئيس الوزراء السنغافوري (لي كوان يو) وهو الأب الروحي الذي حوّل سنغافورة من مستعمرة صغيرة تعيش الفقر المدقع إلى دولة متلألئة قوية وحديثة، يقول: «يختلف السنغافوريون عن الأميركان والإنجليز رغم احتمال تحدّثهم باللغة الإنجليزية أو ارتدائهم الملابس وفق النمط الغربي. فإن أوجه تبايننا مع الغربيين ستزول فيما لو طرأت ظروف على المدى البعيد يتعذر فيها تمييز السنغافوريين عن الأميركان والإنجليز أو الشعب الأسترالي أو على نحو أسوأ تحوّلنا إلى شخصية ممسوخة تقلّد الشعوب الأخرى. وسنعجز عندئذٍ في الحفاظ على هويتنا على الصعيد الدولي».
وكتب عالم الاجتماع والروائي حليم بركات عن المنفى قائلاً: «وجدت في المنفى شجرة الوطن تغرس جذورها عميقاً في داخلي، فأنتقل على أجنحة المخيلة بين الكهولة والطفولة، وبين مدينة أميركية هي واشنطن وقرية سورية هي الكفرون، فكلما ابتعد الروائي والأديب عن وطنه جغرافياً ازداد ارتباطه به».
إن أمر الهوية identity لا يتصل فقط بوطننا العربي والإسلامي، بل يتصل حتى بالتجربة الأوروبية، فالثورة الصناعية جعلت الأوروبيين ينتبهون إلى تراثهم خوفاً من أن يقضي عليه ضجيج الآلة. وكان على رأس هؤلاء الفيلسوف الألماني نيتشه، الذي حذّر من دخان المصانع وآثارها على مجمل العلاقات الإنسانية، فأكّد على معرفة الذات وتوكيدها والبحث عنها باعتبارها مسألةً حضاريةً. بل إن الإذاعة البريطانية (B.B.C) في العام 1981 رفضت عرض حلقات «افتح يا سمسم» الأميركي بحجة أنه يحمل إلى أطفالها قيماً أجنبيةً عن مجتمعها. كما أوصى البرلمان الأوروبي بفرض قيود أشد على الأفلام الأميركية التي تعرض في التلفزيونات الأوروبية ضمن حملة قوية ضد أمركة الثقافة، حيث تعرض 8 أفلام أميركية من بين كل 10 أفلام على مستوى السينما الأوروبية.
لاشك أن الفيلم منتج ثقافي بالدرجة الأولى، ويتضمن قيماً وسلوكيات، ومع الاعتراف بخمول رغبة الإنسان العربي في القراءة، فإن أسهل خيار هو المشاهدة. وتشير الدراسات إلى أن الشاب العربي يشاهد في المتوسط أربعين ساعة أسبوعياً، أي ما يساوي خمسة أيام عمل. والطريف أنني في إحدى المحاضرات الموجّهة للشباب سألتهم: في حال استوقفك رجل دوريات الأمن فمن عليه الترجل (النزول) من السيارة: رجل الأمن أم المواطن؟ كان الهدف من السؤال معرفة المرجعية السلوكية لدى الشباب لمعيار الخطأ والصواب. واللافت في الأمر أن أغلبهم قال: يجب على رجل الأمن الترجّل من السيارة، وأنهم عرفوا صحة ذلك التصرف من خلال مشاهدتهم المكثفة للأفلام الأجنبية!
أختم بقول عظيم للإمام علي وهو جديرٌ بالفهم والتأمل: «رحم الله امرأَ أعد لنفسه، واستعدّ لرمسه... وعلم من أين، وفي أين، وإلى أين؟»
إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"العدد 3465 - الجمعة 02 مارس 2012م الموافق 09 ربيع الثاني 1433هـ