ذكرنا في الفصل السابق العمليات الأساسية التي ساهمت في انتشار ثقافة إيذاء الأطفال أو قتلهم، وذكرنا أن العملية الأولى بدأت، على الأرجح، بقتل الإناث وهي عادة انتشرت قديماً في العديد من الثقافات، وفي هذا الفصل سنحاول توضيح الجذور التاريخية أو مرحلة التأسيس لثقافة قتل الأطفال.
المرأة بوصفها آلة إنتاج للأطفال
تناولنا في سلسلة سابقة دور المرأة في البدايات الأولى لتكوين النظام الأسري وقد ذكرنا دور المرأة في تلك الحقبة والأعمال المناطة بها وأنها كانت محور الأسرة التي تجتمع حوله الأولاد، ويلاحظ هنا أنه بالإضافة لمهمات المرأة المناطة بها كان ينظر لها أن وظيفتها الأساسية هي إنجاب الأطفال، هذه النظرة استمرت لآلاف السنين، وحتى ضمن الحضارات العريقة كان ينظر للمرأة بالنظرة ذاتها: «كانت نساء أثينا ملكاً لرجالهن يورثن كما تورث البيوت والعبيد والماشية. كان وجودهن يعتبر عدماً وبلا معنى إلا لخدمة غرضين تحيا النسوة وتموت لأجلهن... الأمومة... والخدمة العامة لرعاية الرجل والعائلة... وبذلك انحصرت آمال المرأة وحياتها في التطلع إلى الحصول على الذكر الذي يمنحها الطفل والبيت لتثبيت وجودها في المجتمع وتحس بقيمتها التي اختصرت على هذه الأهداف»، (جمهورية أفلاطون، المنياوي، 2010م، ص 120 – 121).
ومنذ حقبة تلك «الحضارات» العريقة اعتبرت المرأة أساس الخطيئة وأنها هي التي تغوي الرجال، وقد انتقلت هذه الأفكار إلى الرومان، التي اقتبستها حرفياً بل وشرعت لعواقب بشعة ضد المرأة التي تخرج عن هذا العرف، وقد كان قسطنطين، أول إمبراطور مسيحي، أول من شرع أن تعاقب المرأة التي تتحدث لرجل لا يوافق عليه أبوها، وقد كان عقابها الموت وذلك بصب رصاص مصهور في فمها (deMause 2010، p. 174). وبعد أكثر من ألف عام من هذا الوصف بقي حال المرأة على ما هو عليه، بل إن الكلمات ذاتها كانت تعاد لوصف حال المرأة عبر العصور، ففي العصور الوسطى كانت المرأة تُذكَر دائماً بوضعها الوضيع وأن لا قيمة لها، وأنها أساس الخطيئة، وقد كانت الفتاة تعاقب وتضرب بشدة لأتفه الأسباب (deMause 2010، p. 173).
الفقر وتحديد النسل
من أكبر المشاكل التي واجهت شعوب العصور القديمة هي عملية تقنين النسل، وكان أبسط حل لتفادي حدوث مجاعة هو قتل الأطفال، وفي الغالب كانت تقتل الإناث بصورة أساسية فذلك سيخفض عدد الأفراد وسيقلل من أعداد الأمهات المستقبلية (Mungello 2008، p. 2). بقيت مشكلة تحديد النسل ردحاً طويلاً من الزمن تشغل عقول الناس في مختلف الثقافات التي بدأت تبتكر طرقاً مختلفة لذلك، إلا أن حل قتل الرضع حديثي الولادة هو الحل الأمثل عند عدد من الجماعات الشعبية القديمة وفضلته على الإجهاض؛ لأنه لا يشمل المجازفة بحياة الأم بالإضافة إلى أنه بالإمكان معرفة جنس المولود قبل قتله، وربما لا يقتله في حال كان ذكراً (Laughlin 1994). على سبيل المثال في الصين ومنذ القرن الحادي عشر كان المزارعون الفقراء يعيشون بقاعدة معينة وضعوها لأنفسهم وهي أن يربوا ثلاثة أطفال كحد أقصى، ولدان وبنت واحدة، وما زاد على ذلك يجب أن يقتل (Mungello 2008، p. 6). حتى في أوروبا عاشت العديد من الجماعات الشعبية على هذا المنوال، وعندما أصبح هناك قانون يجرم قتل الأطفال بدأ عدد من الكتاب يبحث عن طرق تحديد النسل، وقد اقترح Malthus في العام 1798م فكرة الزواج المتأخر كحل لتحديد النسل (Coleman 1976).
من هنا نستنتج أن ثقافة قتل الأطفال بدأت منذ الحقب القديمة كطريقة لتحديد النسل، وقد وقع الخيار في بادئ الأمر على الأنثى؛ وهكذا أسس أسلاف صانعي الحضارات العريقة أبشع جريمة في تاريخ البشرية. وسوف نتطرق هنا بصورة سريعة لثقافة قتل الأنثى في عدد من الثقافات.
إغراق الإناث في الصين
تعتبر الصين من أقدم البلدان التي وثقت فيها عملية قتل الأطفال منذ الألف الأول قبل الميلاد وحتى القرن العشرين، وخلال هذه الحقبة الطويلة من الزمن ابتدع الصينيون العديد من طرق قتل الأطفال الحديثي الولادة، وخصوصاً الإناث، وأشهر تلك الطرق هي طريقة إغراق الطفلة في دلو كبير مليء بالماء، ولمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع لكتاب (Mungello 2008) المعنون Drowning Girls in China.
«وأد البنات عند العرب»
انتشرت عادة وأد البنات، أي دفنهم أحياء، في عدد من القبائل العربية قبل الإسلام مثل تميم وأسد وبكر وكنده وقريش. ولم تكن كل العرب تأد البنات فقد كان هناك من العرب من كان يحيي الموؤدات أي يمنع وأد البنات وذلك عن طريق شراء البنت من والدها، وكان من أهم أسباب إقدام الرجل على وأد ابنته هي: خشية الفقر وخشية العار من سقوطهن أسرى في يد الأعداء، وقد اختلف الباحثون حول تاريخ الوأد لكن معظمهم يرجعها لغزوة النعمان بن المنذر ملك الحيرة على قبيلة بني تميم حينما امتنعوا عن دفع الضرائب فحاربهم واستولى على أموالهم ونسائهم، فكلّموه في إرجاع نسائهم، فقرر أن تختار المرأةُ نفسها العودة أو البقاء، فاختار بعضهن البقاء وعدم العودة إلى أهاليهن، وخاصة بنت قيس بن عاصم الذي نذر أن يدسّ كلَّ بنت تُولد له منذ ذلك الوقت؛ وبذلك انتشرت عادة وأد البنات بين تميم، وأخذتها بقية القبائل (السيرة المحمّدية، السبحاني، النسخة الإلكترونية صفحة 251).
قتل الأطفال في أوروبا
انتشرت عادة قتل الأطفال في العديد من مناطق أوروبا منذ حقب قديمة ومروراً بحقبة نشأة الحضارات كالحضارة اليونانية وخصوصاً في سبارتا، وقد ورث عنهم الرومان هذه العادة (Coleman 1976)، واستمر الوضع حتى العصور الوسطى، ويعطي deMause في بحثه «Bipolar Christianity» صورة المرأة في العصور الوسطى فيذكر أنها كانت تعتبر تلوثاً خطيراً وعليه كانت تقتل أو تترك أو لا تغذى جيداً أو تغتصب أو بأقل تقدير لا تعامل كما يعامل الذكر من حيث الاهتمام والتغذية، ويذكر الكاتب جملة كانت مشهورة عن الأنثى «اجعل غذاءها دائماً يجعلها جائعة». وقد كانت الفتاة المسيحية دائماً تُخبر بأن ليس لها قيمة. أما من كان يعتني بالفتيات في تلك الحقبة فكان يأمرها دائماً أن تحمل معها سكيناً لتدفع عن نفسها المغتصبين الذي يجوبون الشوارع؛ حيث إن اغتصاب الفتيات في تلك الحقبة كان شائعاً (deMause 2010). ومن الكتب التي وثقت حالة المرأة في القرون الوسطى كتاب «Women in Medieval society» الذي صدر العام 1976م الذي يضم عدداً من البحوث لعدد من الكتاب منها بحث Emily Coleman المعنون Infanticide in Early Middle Ages. وقد اعتمد Coleman على تحليل الدراسات الديموغرافية القديمة لمنطقة باريس وما حولها أي Ils-de-France؛ حيث كان هناك اهتمام كبير في إجراء هذه الدراسات من قبل العديد من كتاب تلك الحقبة، وتشير أرقام دراسة أجريت في إحدى المناطق الفرنسية في القرن التاسع الميلادي إلى أن نسبة الذكور للإناث أكثر من اثنين إلى واحد في العائلات التي تضم عدداً كبيراً من الأفراد، بينما يقل الفارق في النسبة كل ما كبر حجم المزرعة التي تقطنها العائلة، ويرى Coleman أن هذه النتائج طبيعية ففي المزرعة الكبيرة هناك حاجة للعديد من النساء لتقوم بالعديد من الأعمال، ولا تمثل المرأة في هذه الحالة عبئاً على العائلة، بينما في العائلات الكبيرة والتي لا تمتلك مزرعة كبيرة ستمثل المرأة عبئاً، وعليه فإن الكاتب يرجح أنه تم التخلص من المواليد الإناث؛ حيث إن قتل الأطفال، وخصوصاً الإناث منهم، لم يكن بالأمر الغريب عن تلك الحقبة.
التواطؤ الجماعي لقتل الأطفال
حتى القرن الثامن الميلادي كان الإجهاض شائعاً وكانت تعاقب المرأة التي تجهض نفسها بالصيام لمدة عامين، وفي القرن التاسع شددت العقوبة للصيام لمدة عشرة أعوام وكان هذا العقاب متعارف عليه في باريس. ويؤكد Coleman أن العامل الاقتصادي هو العامل الأساسي وراء إجهاض النساء وقتل الأطفال، ولكن مع تشديد العقوبات بدأت العديد من الأمهات حينها بترك أطفالهم على أبواب الكنائس، حينها بدأت الكنيسة بتخفيف عقوبة قتل الأطفال وخصوصاً للنساء الفقيرات (Coleman 1976)، ويبدو أن هذا نوعاً من التواطؤ المبطن من قبل الكنيسة التي أهملت قضايا قتل الأطفال حديثي الولادة والذي كان يحدث وكأنه حدث روتيني في القرون الوسطى، والذي أهملته حتى المحاكم واستمر ذلك حتى القرن الثامن عشر، وفي القرن الثامن الميلادي كانت أقصى عقوبة للأم التي تقوم بقتل طفلها حديث الولادة هي حرمانها من دخول الكنيسة لمدة أربعين يوم (deMause 2010، pp. 178 - 179)
إقرأ أيضا لـ "حسين محمد حسين"العدد 3463 - الأربعاء 29 فبراير 2012م الموافق 07 ربيع الثاني 1433هـ