في مقولة الألماني جوهاينز إيكهارت (1260-1328م). (عالم لاهوت ألماني كان نصرانيّاً ذا نفوذ وتأثير، وساعدت مواعظه في تشكيل العلم الروحاني المسيحي في العصور الوسطى. أدَّت خطبه دوراً في تطوير الألمانية كلغة أدبية): «إن أسرع حيوان ينقلك إلى الكمال... الألم»، تأخذ بنا إلى تعدّده في حياتنا. ألم غدر؛ أو طعن؛ أو نكران؛ أو جحود. ألم خيانات أحياناً، وألم يطول الجسد في أعصابه ومراكز إحساسه. يطولك في اللحم والعظم. يعيد تشكيل ملامحك كما يرى. كأنه الصانع لها.
والذين يمتهنون تصدير وإصابة الآخرين بآلام يسهرون على وصفتها، لا حظّ لهم من القيمة والمعنى في الحياة. هم مُهدَّدون لأبسط الحق فيها، أن يعيش الإنسان منطلقاً، محبّاً معمِّراً للحياة من حوله، ومساهماً في استقرار حيوات الناس في الوقت نفسه.
وأصعب صنوف الألم ذلك الذي يأتيك من حيث لا تحتسب. يأتيك من بشر نذرتَ روحك وأعصابك وسهرك وخوفك وقلقك عليهم. تذهب حدّ وضع نفسك في عالم ودائرة من فاقة كي لا ينالهم نصَب أو عنَت من الحياة. كل تلك النذور هي برسْم آلام ستأتيك وتربض على روحك بالجملة، طعناً وغدراً ونكراناً وجحوداً.
***
هل يُوصلك الألم إلى الكمال؟ هو كذلك حين تختبر الجانب والصورة الأخرى من الحياة، وخصوصاً لأولئك الذين اعتادوا طيفاً واحداً فيها. أن يكونوا مرتهنين وضالعين في اللامبالاة لدرجة أنهم يحسبون الحياة خالية من ذلك الوحش: الألم. ربما لأنهم لم يلتقوه في طريق؛ أو ربما لم يحنْ دورهم كي يعرّج عليهم لاختبار أرواحهم وأعصابهم ومراكز إحساسهم. بمنأى هم عمّا يحدث من حولهم من فظاعات وأهوال وانتهاكات وابتزاز للإنسان وقيمته والأخذ به إلى مصافِّ العدم.
يطل كل منا على هاويته أحياناً في ظل هيمنة هذا الحيوان: الألم. بعضهم يُحيل تلك الاطلالة استرجاعاً وتمركزاً في الكمال الذي ينشد ويتوخى ويتطلع، وبعض يعجّل بذهابه إلى حيث مستقر ومستودع الهاوية.
***
حين تكون مراكز الإحساس لديك في ذروة انتباهتها ويقظتها لا تحتاج إلى أن تتألّم لما/ من حولك. ذلك وحده حصّة ولو يسيرة منه. أن تتألم من دون ألم ذلك وضعٌ آخر جدير بالانتباه. وقليلون هم في دنيانا اليوم؛ بدليل تمدّد الألم بصوره المتعدّدة والمبتكرة. قليلون هم الذين على استعداد لأن يضعوا حدّاً لشهوة الألم وتمدّده وتسرْطنه.
***
وفي درس الألم الذي يطولك ضمن من ظننْتهم أحبّة وأخوة وأصدقاء وحلفاء مصير واحد ومشترك. تأتيك فرصة كمال النفس والروح إذا ذهبتَ بها في الطريق النقيض، بعيداً عن الانتقام والتشفي، ومحاولة هدم كل معبد أو سقف على رؤوس من هم في ظله. وقليلون هم الذين يستثمرون مثل تلك الآلام لوضع مسافة يتحرّز فيها الإنسان من بشر يأتون وهماً في هيئة ملائكة وضحايا؛ فيما هم يسهرون بمجون أحياناً على إعداد ولائم الانقضاض على كل شبْر من روحك ولحمك وعظمك.
***
كيف هم الذين لم يختبروا الألم؟ هل هم بشر بالمعنى المكوّن للبشر في التناقض والتضاد والتحوّل والتحرّك الذي من المفترض أن يحيوه ويجسدوه؟ ثم كيف هم الذين لم يختبروا الألم وعلاوة على ذلك يكتفون بالفرْجة على آلام الآخرين؟ هل يصنعون متر حركة ومعنى في الحياة؟ هل يدخلون في تعْداد العالم من حيث القيمة والتأثير والذهاب إلى هدف الحياة؟
***
كل درس ألمٌ من نوع آخر. كل ألم درسٌ في العمْق. درسٌ نحو التوجّه إلى الكمال المنقوص والغائب في هذا العالم. لا كمال سيتحقق من دون ذلك الحيوان: الألم، بحسب تعبير إيكهارت. ويدفعك إلى الكمال أكثر أولئك الذين ظننْتهم في اللبّ من روحك. أولئك الذين يمارسون الغدْر والطعْن والنكْران والجحود، كما يمارسون التنفس والنوم والمشي في الأسواق وحتى الإنجاب
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3460 - الأحد 26 فبراير 2012م الموافق 04 ربيع الثاني 1433هـ
اقتراح
اخي الكاتب جعفر المحترم لقد ذكرت الألماني جوهاينز إيكهارت (عالم لاهوت ألماني كان نصرانيّاً ذا نفوذ وتأثير . وتطرقت لشيء من مواعظة في عصره . لدي فكره لا اعرف توصيلها "لادارة الوسط" لما لا تقومون بوضع زاوية او ركن فيه بعض المعلومات التاريخية عن كتاب اجانب ومؤلفاتهم وتسليط موجز لجوانب من مؤلفاتهم او اسهامتهم سوء سلبية او ايجابية لاثراء الساحة عامة وتنوير المجتمع بصورة فذة ومبتكرة . وحبذ ذكر اسماء الكتب وهل هي بعضها مترجم للعربية ام لا وان امكن اي دار للنشر طبعت، اقل تقدير ذكر اسمها