تمر علينا هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى لانطلاقة ثورات الربيع العربي، وهنا تذكرت صديقاً أثق في توقعاته بشأن أحداث المستقبل، هاتفني في الشهور الأولى من العام الماضي وقال من دون أي مقدمات «لو أن مليون كاهن وعرّاف قالوا ضمن تنبآتهم للعام 2011م بأن الرئيس التونسي بن علي سيهرب من شعبه وأن الرئيس المصري مبارك سيحاكم على تجاوزاته في الحكم وأن مصير العقيد القذافي لن يكون أفضل من الرئيس العراقي المخلوع، هل سيصدقهم أحد؟؟!!»، أجبته دون تردد (طبعاً لا)، فضحك لوهلة ثم أقفل الخط!
المستقبل أو الغيب كما يطلق عليه في النصوص الدينية ذاك اللغز المجهول الذي كان منذ قديم الأزمان ومازال يثير فضول البشر ويحفزهم على العمل من أجل حله، جعل البعض يتجه إلى الكواكب والنجوم لاستكشاف أسراره، بينما ذهب آخرون لتفسير الأحلام وقراءة راحة الكف أو الفنجان أملاً في التوصل إلى معرفة بعض الأحداث المستقبلية وتأثيرها على حياة الفرد أو الجماعة، فقد اجتهد الكثيرون في هذا الطريق، فمنهم من نال جزءاً من الحقيقة، بينما انحرف آخرون كبعد المشرق عن المغرب، في حين لايزال هذا اللغز عصياً على الحل وبعيداً عن منال مريديه حتى في عصر اكتشاف الفضاء.
المفكر الفرنسي تيبور منده أدلى بدلوه في هذا المجال عبر نظرية «تاريخ المستقبل» التي قد تكون قريبة من الأسلوب العلمي المجرد من العواطف والأوهام، فقد أحدثت نظريته ثورة بين علماء الاجتماع في بداية عقد السبعينات من القرن الماضي، حيث إن الدارج كما نعلم هو دراسة الماضي لمعرفة الحاضر والمستقبل إيماناً بأن «التاريخ يعيد نفسه» ولكن كيف يستطيع الفرد كتابة تاريخ لمستقبل مجهول مقبل بناء على بعض الوقائع التي يشاهدها في الحاضر.
يقسم منده العصور البشرية إلى 27 مرحلة، لها حضاراتها وخصوصياتها وأفكارها التي لا تتوافر في المرحلة التي سبقتها وتلك المراحل هي في الحقيقة سلسلة من الحوادث المترابطة، وبناء عليه يعتقد بأن المجتمعات في كل مرحلة تتكون من ثلاث طبقات رئيسية، طبقة العوام ويمثلون السواد الأعظم في أي مجتمع عددياً وطبقياً، وطبقة الخواص ويمثلون الطبقة المتعلمة والمثقفة أمثال العلماء وكبار رجال الأعمال والمخترعين والأطباء والمهندسين والسياسيين والكتاب والشعراء والمفكرين والفلاسفة، والطبقة الثالثة هم النخبة أو ما يعرف أحياناً بخواص الخواص.
طبقة خواص الخواص هم في الحقيقة شريحة قليلة جداً عددياً وأشخاص نادرون يملكون أفكاراً وعقائد تختلف، بل وتتعارض مع عقائد العوام والخواص في عصرهم، وهم مجموعة من كبار الكتاب والمفكرين ممن يصدق أن نطلق عليهم العباقرة حيث يختلف جوهر حديثهم كلياً عن ما يردده طبقة الخواص وعادة ما يؤمنون بأفكار لا تعتقد بها مجتمعاتهم، ويستخدمون عبارات تنفجر في وجه العوام والخواص، فهم يتكلمون بخطاب جديد بعكس الرائج في المجتمع، وهم يعارضون الموروث وروح عصرهم ويعارضون طريقة العلماء والمثقفين.
اكتشف منده في دراسته بأن مع مرور الزمن يتقلص عدد الأفراد في الطبقة الدنيا من العوام لحساب الطبقة المثقفة، وهذا قد يبدو بديهياً ما يعني أن عدد المثقفين في كل مرحلة يفوق المرحلة التي سبقتها؛ نظراً لانتشار الفكر والثقافة والتعليم بين عوام الناس، ولكن ما يثير الاستغراب هو أن النظريات التي كان يؤمن بها ويروج لها طبقة النخبة والتي كانت تواجه بالتجاهل والسخرية، وأحياناً بتصفية من يدعو لذلك كانت هي نفسها النظرية التي تؤمن بها طبقة المثقفين في العصر الذي يليهم مباشرة ويصبح لها أنصار ومريدون يدافعون عنها بكل شراسة، وهذا ما حدث في أكثر من 27 مرحلة مرت بها البشرية عبر التاريخ حسب اعتقاد منده.
ولإثبات صحة تلك النظرية يطرح مثالاً العصور الوسطى في أوروبا حيث إن العوام هم من يذهبون إلى الكنيسة ويطيعون تعليمات الكهنة باسم الإنجيل والعهد القديم، ويعتقد منده بأنهم هم العوام اليوم أنفسهم لم يتغيروا وهم من يعيشون في أوروبا بالمشاعر والإيمان نفسه، ويبدو ذلك جلياً حين يظهر البابا في أعياد الميلاد ويطل من نافذته في الفاتيكان حيث إن مئات الآلاف يحيونه بكل شوق بل ويذرفون الدموع بمجرد مشاهدتهم له تماماً كما كان يحدث في العصور الوسطى، فشعورهم هو عين شعور من سبقهم في العصور الوسطى قبل أربعة قرون في إيطاليا، يمتثلون لأوامر الكنيسة والكهنة، لذا فحين نقول إن عصراً جديداً بزغ في القرن السابع عشر فإننا نعني بأن تغييراً حدث في طبقة الخواص في أوروبا وليس العوام، حيث إن العوام في جميع المجتمعات تبقى كما هي في العادة، لذا لقراءة المستقبل يقول منده بأنه علينا أن نوجه أنظارنا إلى خصوصيات الخواص وخواص الخواص أي النخبة في كل مرحلة.
ففي نهاية العصور الوسطى كانت هناك طبقة العوام وطبقة المتعلمين من طلبة العلوم الدينية التابعين والمتحالفين مع الكنيسة وفوقهم نحو عشر إلى عشرين فرداً نادرين من العباقرة ممن يعارضون طبقة المثقفين في عصرهم، وفي العصر التالي أي من القرن السابع عشر إلى قرننا الحالي نرى بأن طبقة العوام هم أنفسهم لم يتغيروا ومازالوا بالخصائص والعقائد نفسها في العصور الوسطى؛ ولكن عددهم قل قليلاً بسبب التعليم وانتقلوا إلى طبقة المثقفين الأعلى، وحين نركز على الطبقة المثقفة نراهم يقولون تماماً ما كان يردده العباقرة في العصور الوسطى ولم يستمع لهم أحد، لذا فإن هناك دائماً طبقة فوق طبقة المثقفين في كل عصر يأتون بأفكار جديدة تخالف أفكار الطبقة المثقفة، وفي العصر الذي يليهم وبصورة قطعية نرى بأن أفكار هؤلاء العباقرة النادرين والغرباء والوحيدين في المجتمع يشكل مدرسة للطبقة المثقفة في العصر التالي.
العباقرة نعني أمثال العالم الألماني جوهانز كبلر والإيطالي جاليليو جاليلي وإسحاق نيوتن وفرانسيس بيكون وروجر بيكون ممن كفرتهم مجتمعاتهم وسجنوهم وأحرقوهم وحاكموهم على معتقداتهم؛ لأنهم فقط اعتقدوا وعبروا عن أفكار جديدة تخالف معتقدات المثقفين في عصورهم والطبقة المتعلمة.
وبناء على هذه النظرية التي تبدو جديرة بالاهتمام والدراسة بشكل أعمق وعلى ضوء التطورات الأخيرة التي حدثت في أماكن كثيرة وفي مختلف القارات قد نستطيع القول بأننا نعيش في السنين الأخيرة من العصر الذي سبق، والذي كان في كثير من مواقعه يتسم بالبطش والقهر والحرمان والحروب، وقد بدأ يتشكل عصر جديد في العالم يؤمن بحق الشعوب واحترام حقوق الإنسان وهو ما كان ينظر له كبار المفكرين في العقود الأخيرة، لذا لو تمعنا بشكل أعمق نكتشف أن ستاراً واحداً كان يفصلنا عن تلك الأيام الجميلة وهو الزمن ومع مرور السنين أزيح ذلك الستار، لأن انتصار مشيئة الله وانتصار الحق على الباطل حتمية تاريخية ستتحقق طال الزمان أو قصر.
يقول السيد المسيح مخاطباً أنصاره «الحقيقة التي كنتم تخشون النطق بها حتى في الظلام ستسمعونها يوماً في النور والإيمان الذي اكتسبتموه في خلوات المنازل لاشك سوف تنادون به يوماً فوق السطوح»
إقرأ أيضا لـ "ناصر البردستاني"العدد 3459 - السبت 25 فبراير 2012م الموافق 03 ربيع الثاني 1433هـ
مقال جميل
دُمت موفقًا يا ناصر .. لقد أبدعت في مقالك وكان سردك علميا أدبيا موفقا بالإضافة الى لمساتك الناعمة من السنن الإلهية والتاريخية.. وفقك الله تعالى لمزيد من التوفيق والنجاح