الارتجال وَهَنٌ مدمر للعملية التربوية، ولعل أقرب صورة للرؤية الممكنة غير المتصلة بالأوهام والأماني في عالم السياسة مقولة (ثيودور هرتزل) لمحدّثيه من الصحافيين بعد انتهاء مؤتمر (بازل) في العام 1897م، حيث تم الاتفاق على تبني رؤية خمسينية «قد تسخرون مني إذا قلت بأننا قد أقمنا الدولة اليهودية في فلسطين»، وبالفعل وبعد خمسين عاماً تحققت رؤيته، لا لأنه كان يعلم الغيب؛ وإنما لأنه كان يملك رؤية واضحة استطاعت كسب أصوات اليهود في جميع أنحاء العالم.
هذه الرؤية لم تتأثر بالتحديات أو المعوقات، فقد كان (ماكس بودنهماير) وهو أحد رفاق (هرتزل) وكبار مستشاريه يعلم قبيل مؤتمر (بازل) بأن السلطان العثماني كان قد رفض كل العروض والإغراءات التي قدمها (هرتزل) لتركيا من أجل الموافقة على هجرة اليهود إلى فلسطين، إلا أن اللافت هنا ما قاله (بودنهايمر) عندما كان في سفينة كانت تعبر به مضيق الدردنيل في تركيا «إن لأحلامنا أجنحة لا تعرف الحدود، وإن المنطقة ما بين نهري النيل والفرات يجب أن تفتح أمام الاستيطان اليهودي؛ لتحقيق الوعد الإلهي لليهود بالدولة اليهودية الكبرى».
على الصعيد التربوي، ولكي نعيد ابتكار فهمنا ووعينا لرؤية المدرسة ورسالتها فيما يتعلق بتضمين المبادئ العالمية لحقوق الإنسان، والتي هي ليست مجرد حفظ آلي لنصوص دستورية ومواثيق دولية أو شعارات أو محاولات عبثية أو برامج ترقيعية أو وضع مساحيق ديمقراطية لتزيين واجهة وجدران المدارس، كما هي ليست مجرد استراتيجيات تدريس وأنظمة تقويم وامتحانات وما إلى ذلك، وإنما هي في الحقيقة ممارسة ميدانية وأداة لإعادة تشكيل المفاهيم لربط النظام التعليمي بالأصول الفلسفية الحركية لمفهوم حقوق الإنسان كما هو الحال في المجتمعات البشرية المتقدمة، فعلى سبيل المثال: كيف يمكن لنا أن ندرِّس اليوم حقوق الإنسان كمهارة حياتية في فهم الذات وفهم الآخر المختلف عنا، ونحن مازلنا نضيق ذرعاً بتقبل هذه المفاهيم الإنسانية الراقية بين تحفظ هنا ورفض هناك؟!
إذا كانت رؤية المدرسة تعني تلك الآمال والطموحات المأمول تحقيقها في الفضاء التعليمي، والتي هي بمثابة الموجّهات لتنفيذ القرارات التعليمية، فإن رسالتها مشتقة من رؤيتها التي غايتها الأساس إكساب الطلبة والكادر التعليمي والإداري المبادئ ذات الصلة بثقافة حقوق الإنسان، وتمكينهم من تمثل قيم هذه الثقافة وتأثيرها على مجريات سلوكهم ومواقفهم الحياتية، فرسالة المدرسة تركز في العادة على الخطوات التي تريد المدرسة القيام بها للوصول إلى تحقيق الرؤية.
الأبعاد التربوية في بناء رؤية المدرسة ورسالتها مهمة، إذ لابد أن تصاغ وفق أحدث المعايير والمؤشرات العالمية، ومن الأهمية بمكان أن يتعرف كل فرد في المدرسة (معلماً كان أو طالباً) عليها.
المشكلة أن الطريقة التقليدية مازالت هي السائدة في مدارسنا، فكل ما في الأمر أن إدارة المدرسة تقوم بنشر رؤيتها ورسالتها والإعلان عنها، عن طريق الكتابة والإعلانات التي توضع على جدران المدرسة، وتُلزم كل المعلمين بوضعها في كراسات التحضير، وتشكل لجنة متابعة لصياغة الرؤية والرسالة ومن ثم مراجعتها من قبل ممثلين عن إدارة المدرسة والعاملين بها، في اجتماع الجمعية العمومية بالمدرسة، متضمنة المقترحات المرفوعة من قِبل الأعضاء قبل اعتماد الصياغة في صورتها النهائية، وقليلاً ما يجتمع المعلمون الأوائل بالأقسام بمعلمي كل مادة لأخذ مقترحاتهم وتصوراتهم للرؤية المطلوبة، ونادراً ما يتم توزيع استبانة على طلبة الفصول المختلفة للنظر في مقترحاتهم.
النظرة التقليدية هذه لم تضع في الاعتبار دور الشركاء الآخرين المؤثرين في العملية التربوية، أعني بهؤلاء الشركاء أولياء أمور الطلبة والمربين والمجالس الأهلية وعموم مؤسسات المجتمع المدني.
في سياق الرؤية، فإنه تقع على عاتق الجهات الرسمية (وزارة التربية والتعليم تحديداً) مسئولية تطوير النظام التعليمي بدءاً من التعليم الأساسي وانتهاءً بالتعليم الثانوي؛ لتقديم نموذج رائد ومتميزعلى مستوى المنطقة من خلال توفير تعليم عالي الجودة للجميع كحق أساسي وأصيل من حقوق الإنسان البحريني، وإعداد الأطفال والشباب للمواطنة الحقة في مجتمع المعرفة على أساس وجود عقد اجتماعي جديد قائم على مبدأ العدالة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية وسيادة القانون، وتأسيس نظام تعليم لا مركزي يدعم مفهوم الشراكة المجتمعية والحوكمة الرشيدة، بحيث يكفل إدارة إصلاح منظومة التعليم بطريقة فاعلة على مستوى المؤسسة التعليمية والمستويات الإدارية كافة.
أما رسالة الوزارة، فتتلخص في توفير فرص عادلة ومتكافئة أمام جميع الطلبة البحرينيين للحصول على تعليم عالي الجودة، يمكنهم من الوصول إلى مستويات التفكير العليا كالتفكير الناقد والتعلم مدى الحياة وحل المشكلات والتزود بالمهارات الحياتية اللازمة؛ ليكونوا مواطنين نشطاء وفاعلين ومشاركين إيجابيين في المسيرة التنموية بالبلاد، وفي مجتمع عالمي يموج بالمتغيرات والتحديات.
ما نعتقد به أن رؤية المدرسة ورسالتها تمثلان خريطة طريق بالنسبة لكل المنتسبين للمؤسسة التعليمية، وذلك لن يتأتى بمعزل عن ابتكار الطلبة الآليات التي تمكنهم من ممارسة حقوقهم، بأن تتحول حقوق الإنسان في أذهانهم إلى واقع وصور متحركة، وأن تدخل حياتهم اليومية بشكل فعلي وعملي.
ما نحتاج إليه هو إيجاد وثيقة محددة وواضحة المعالم لرؤية المدرسة ورسالتها، بحيث يعرفها جميع المعنيين بالعملية التربوية ويشاركون في صياغتها، والعمل على جعل رسالة المدرسة متوافقة مع رؤيتها بشكل واضح لا لبس فيه ولا غموض وفق أحدث المعايير الدولية، والاهتمام بتنمية مهارات المتعلم واحتياجاته المتنوعة، وإلزام الإدارات المدرسية بتفعيل رؤيتها ورسالتها، والإعلان عن ذلك في المجتمع عبر منظماته ومؤسساته المختلفة.
يقول الروائي البرازيلي (باولو كويلو) «تأكد، وأنت تدفع ثمن أحلامك أنك تسير حقاً في الطريق الصحيح»
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3459 - السبت 25 فبراير 2012م الموافق 03 ربيع الثاني 1433هـ
متنم
شكرا على هذه المعلومات
تحياتي لك
تحياتي لك يا استاذ فاضل على هذا المجهود المقدم للجميع ومن اجل الثقافه والتعلم واشكرك على اهتمامك بهذه المواضيع الحاسمه وشكرا