يرى جون ديوي في كتابه «الديمقراطية والتربية» أن غرف الدراسة ينبغي أن تكون مرآة تعكس ما يجري في المجتمع الأكبر، وأن تعمل كمختبر أو معمل لتعلم الحياة الواقعية؛ لكي يتعلم الطلبة المبادئ الديمقراطية من خلال تفاعلاتهم اليومية الواحد مع الآخر، ومن خلال إيجادهم حلولاً للمشكلات الاجتماعية التي تطرح في الفصل تحت إشراف المعلم.
نقول، إن البداية لابد أن تكون من الفضاء المدرسي، حتى وإن كنا نؤمن بأهمية الثقافة الديمقراطية في جميع نواحي الحياة، إلا أن لهذه الثقافة نكهتها الخاصة والمميزة في عمليتي التعليم والتعلم.
وإن من أرقى صور التعليم ممارسة التربية الديمقراطية في الفصول الدراسية وعموم البيئة المدرسية، فمن شأن هذه التربية أن تساعد الطلبة في معرفة حقوقهم وواجباتهم تجاه المجتمع؛ لأن التعليم الكلاسيكي القائم على التلقين، لم يشجع الطلبة في كثير من الأحيان على احترام حقوق الآخرين، في الوقت الذي يؤكد فيه التعليم الحديث على التنمية الأخلاقية والاجتماعية والثقافية للطلبة، لتمكينهم من القيام بأدوارهم في المجتمع عبر احترام الاختلافات الدينية والمذهبية والقومية والعرقية وما شابه ذلك.
أدبيات الأمم المتحدة واضحة لا لبس فيها، ونخص هنا بالذكر إحدى منظماتها (اليونسكو)، حيث تشدد على احترام مختلف القيم والاتجاهات الإنسانية، وفي مقدمتها «التعليم من أجل حقوق الإنسان»، الذي يعدُّ أحد الأهداف الكبرى للتعليم في القرن الحادي والعشرين، إذ يمثل التدريس والتعليم في مجال حقوق الإنسان جزءاً رئيسياً من عمل منظمة اليونسكو في مجال التعليم القائم على الحقوق في تشجيع اعتماد مبادئ حقوق الإنسان في الممارسات اليومية.
تسعى اليونسكو لتنمية ثقافة التربية على حقوق الإنسان من خلال التزاوج بين «صورة الطالب لذاته وصورته للآخر «، وعليه فقد دشنت في 18 من يناير/ كانون الثاني 2012 مع الولايات المتحدة والبرازيل مشروع «تعليم الاحترام للجميع»، والذي سيستمر مدة ثلاث سنوات، بهدف تطوير المناهج التعليمية التي تعزز التعليم على العيش معاً في المؤسسة التعليمية.
المشروع في غاية الأهمية، فهو من أحدث المبادرات التي تقودها اليونسكو لتشجيع التعايش على أسس الاحترام والتسامح ومكافحة التمييز العنصري والعرقي.
في المرحلة الأولى، ستقوم مبادرة «تعليم الاحترام للجميع» بمراجعة كل المناهج والتشريعات والسياسات الموجودة بشأن التعليم من أجل التسامح، وتحديد أفضل الممارسات في هذا المجال.
أما في المرحلة الثانية، فسيقوم المشروع بتطوير الموارد التعليمية والمناهج التي سيتم تنفيذها في البداية في عدد محدود من الدول الرائدة وتتاح بعد ذلك للجميع، مع توفير أدوات عملية عن كيفية دمج مكافحة التمييز وتعزيز التسامح في التعليم والكتب المدرسية.
ولتحقيق هذا الغرض، فإن المشروع سيقوم بإعداد مجموعة من الخبراء المتخصصين في مكافحة العنصرية والتعليم من أجل التسامح وحقوق الإنسان، كما وسيتم إنشاء منصتين على الإنترنت، واحدة للمحترفين في مجال التعليم، والثانية مفتوحة للشباب؛ ليتمكنوا من تبادل الخبرات وتقديم الاقتراحات خلال مدة المشروع.
مبادرة اليونسكو في «تعليم الاحترام للجميع «تنطلق من أساس علمي ومنهجي، فعلماء النفس يؤكدون على أهمية احترام الطفل وعدم تحقيره، فكلما التزم الوالدان باحترام طفلهما توجه الأخير تلقائياً إلى الآخرين بالاحترام والمحبة، وبالتالي تتلاشى لديه النزعة العدوانية سواءً في احتقاره لنفسه أو للآخرين، ومسئولية الحاضنة الأولى للطفل (الأسرة ومن ثم المدرسة والمجتمع) تتمثل في تربية الطفل على احترام وحب الآخرين والانفتاح على المجتمعات الأخرى.
تقع على المعلمين والمربين مسئولية النظر إلى الطلبة بعين واحدة ومن دون تمييز بينهم، ليغذوا فيهم روح الاحترام، فالطلبة لهم مطلق الحرية في التعبير عن آرائهم في الموضوع الذي يشعرون بأهميته، شريطة عدم رفع الصوت، سواءً بين الطلبة والمعلمين أو الطلبة مع بعضهم، ومن المهم أن يقوم المعلمون أو المربون بالإجابة على أسئلة الطلبة حتى وإن كانت محرجة بعض الشيء؛ لأن الامتناع عن الإجابة يخلق حاجزاً نفسياً بين المعلم والطالب، وينعكس أثره على مبدأ الاحترام الذي هو أساس العلاقة بين المنتمين للمؤسسة التعليمية.
دور المدرسة ما هو إلا امتداد لدور الأسرة في تعزيز شخصية الطالب، وهنا نؤكد على دور مجالس الآباء (مجالس أولياء الأمور) بالمدارس؛ لأن ثمة علاقة عضوية بين دور البيت والمدرسة، بحيث إذا لم يلقَ الطالب احتراماً في البيت فإنه من الصعب أن يستوعب معنى الاحترام في المدرسة، والعكس صحيح.
في العام 2003 عندما أطلقت هيئة التعليم في همبشاير بالمملكة المتحدة مبادرة «الحقوق والاحترام والمسئولية»، أشارت إلى أن المعلمين في المدارس التي تم فيها تطبيق هذه المبادرة بصورتها الكاملة وليست الجزئية، ذكروا بأن الطلبة المستهدفين حققوا مستويات عالية من الالتزام، والسلوكيات التي تحترم الحقوق والمشاركة، كما أظهروا فهماً أعمق للحقوق والمسئوليات من نظرائهم في المدارس التي لم تطبق المبادرة بالكامل، فقد اكتسبوا معرفة بالحقوق المنصوص عليها في اتفاقية حقوق الطفل، وفهموا طبيعة احترام الحقوق وقيمتها الإنسانية، واحترام حقوق «الملكية» من خلال اهتمامهم بالكتب المدرسية، ومتعلقات زملائهم الطلبة أو بالفصول الدراسية وبالأدوات والمرافق المدرسية، كما أحرزوا تفوقاً دراسياً ومعدلات أعلى في «حق الاستمتاع» بوقت الفراغ بالمدرسة، وعلاقات تعاونية وثيقة أكثر مع زملائهم ومعلميهم.
حتى في تلك المدارس الواقعة بالمناطق المحرومة التي طبقت فيها المبادرة، فإن معدلات الغياب والحوادث السلوكية قد انخفضت بصورة ملحوظة.
الكثير من المدرسين أعربوا عن رضاهم وسعادتهم بالتحسن الذي طرأ على الطلبة بعد تطبيق المبادرة، فقد علق أحدهم قائلاً «كلما احترمت الأطفال بصورة أكبر، جعلتهم يشاركون بصورة أكبر، ويحترمونك بصورة أكبر».
أحد الأطفال (من الفئة المستهدفة) قال: «لا يمكن أن يكون لك الحق بأن تستقوي على الآخر؛ لأن ذلك يعني قلة احترام الآخرين».
لا أدري إلى أي مدى يمكن تخطي حاجز المحلية إلى العالمية، إلا أن مشروعاً بحجم «تعليم الاحترام للجميع «حتماً سيقدم فهماً جديداً فيما يتعلق بـ «صورة الآخر» في مجتمع متنوع كالمجتمع البحريني، الذي يحترم ثقافات الشعوب ويسعى إلى البحث عن مساحات التلاقي الإنساني.
البعض يتحدث عن الأفكار الخمس للمستقبل (العقل المنظم والعقل المركب والفكر الخلاق والفكر المتسم بالاحترام والفكر الأخلاقي) كضرورة لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين بنجاح.
لذلك، فإنني أعتقد أن مشروع «تعليم الاحترام للجميع» يصلح لأن يكون نموذجاً للإصلاح المدرسي الناجح، وأساساً لمشروع «تحسين أداء المدارس» بالمدارس البحرينية
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3452 - السبت 18 فبراير 2012م الموافق 26 ربيع الاول 1433هـ
احسنت
احسنت استاذي بارك الله فيك