العدد 3450 - الخميس 16 فبراير 2012م الموافق 24 ربيع الاول 1433هـ

أحبك يا وطني... واحةً خضراء

محمد عباس علي comments [at] alwasatnews.com

عضو سابق في مجلس بلدي المحرق

عرف عن الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ (1911 - 2006م) تعمقه وإيغاله الشديد في المحلية وفي الولوج إلى الواقع المصري بتفاصيله الدقيقة، وذلك من خلال ما كتبه من روائع أدبية من روايات وقصص قصيرة، مثل ثلاثيته: بين القصرين، والسكرية وقصر الشوق، وأعماله الأخرى، مثل أبناء حارتنا، وثرثرة فوق النيل، واللص والكلاب... إلخ. فلقد تعمق في الواقع المصري لدرجة أن الكثير من الدارسين والباحثين في علم الإنثروبولوجيا والواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي المصري يجدون ضالتهم في أعماله الأدبية. هذا ومن خلال هذا النتاج الأدبي الموغل في المحلية اكتسب شهرة عالمية واسعة عبر ترجمة أعماله إلى لغات عدة، ما أهله للحصول وبكل جدارة على جائزة نوبل في الأدب.

والروائي الكبير نجيب محفوظ، رحمه الله، كما هو الأديب الإنجليزي تشارلز ديكنز (1870-1812م) الذي يحتفل به عالمياً، هذه الأيام، بمناسبة مرور مئتي عام على ولادته، وكما الاقتصادي البنغالي محمد يونس، الحائز على جائزة نوبل للسلام 2006م مناصفة مع بنك جرامن الذي أسسه من أجل فقراء بلده. فهؤلاء ليسوا الفريدين الذين انتشروا عالمياً من خلال انغماسهم في المحلية وتفاصيلها، فهذا الأمر يكاد أن يكون قاعدة وليس استثناء، وهو ليس فقط في مجالي الأدب والفن، ولكن في شتى مناحي الحياة، من علوم إنسانية واقتصاد وسياسة... إلخ.

وفي هذه العجالة أكتفي بإعطاء هذه الأمثلة للدلالة على أن الاهتمام بالداخل والإغراق في المحلية سيفضي إلى العالمية، حيث الحقائق ستتحدث عن نفسها، وستتطابق الأفعال بالاقوال، وستتكشف الحقائق، خصوصاً ونحن نعيش في أوج عصر تطور وسائل الاتصال والتواصل، والقرية العالمية Global Village.

ففي وطني الجريح، هناك جهود عظيمة تبذل، وأموال طائلة تصرف على تحسين صورة بلدي في المحافل الدولية المختلفة، وعلى المعالجة الأمنية، ولكننا نعلم جميعاً أنها لم تؤتِ أكلها كما أريد لها، وذلك ببساطة شديدة لبعد الشقة بين ما يروج له خارجياً وبين الواقع الذي تعيشه الغالبية الساحقة من أبناء وبنات هذا الوطن الشرفاء وتطلعاتهم المشروعة، وفيما يقابلون به من صنوف التهميش، الحاط لكرامة الإنسان، الذي كرمه رب العزة والجلالة، وفقدان للأمن بصوره المختلفة... إلخ.

يحزنني كثيراً، أن في وطني الجريح، المواطن الشريف الذي يعي ما يدور من حوله من أهوال وتناقضات تقض مضجعه يشعر بالغربة الحقيقية وهو بين أهله وأحبته، وبأن ما يحدث من أمور يعايشها بشكل يومي، لا تتوافق مع التصريحات الرسمية، من أن عجلة الإصلاح لا تراجع عنها، فهو مدرك تماماً بأنه غير معني بها، حيث إن هذه التصريحات تهدف وبشكل واضح لتلميع وجه البلد في الخارج، وليس من أجل إحداث الإصلاحات الحقيقية التي تسهم في وضع البلد على سكة قطار التحول الديمقراطي الحقيقي، الذي ينشده المواطن.

إن تطبيق جوهر وروح توصيات لجنة تقصي الحقائق يمكن أن تشكل منطلقاً حقيقياً يسهم في الوصول للحلول التي يمكن أن تقود البلد إلى بر الأمان. ولكن هذا الأمر يتطلب أموراً كثيرة، أولها الاعتراف بالأخطاء الجسام التي حدثت، ثانياً محاسبة من قام بهذه الأخطاء بشكل تعمدي وانتقامي، كما يتطلب تغييراً حقيقياً في منهجية التعامل مع المواطنين، وحرية التعبير... إلخ. وهذا كله يحتاج إلى إرادة صادقة في إحداث تغيير جوهري، يرتقي بالوطن والمواطن.

إنه من سنة الحياة أن ثقافة التغيير تأخذ وقتاً، وقد لا يبدو من الوهلة الأولى أن هذا الأمر من صالح فئات معينة في المجتمع ممن جبلت نفوسهم على الأنانية وحب الذات، وإلغاء الآخر. إن هذه الثقافة التي ننشدها، يجب أن تكون مبنية على إحقاق الحق ونشر العدالة وإشراك الجميع في نهضة الوطن، وهي لن تحدث بين ليلة وضحاها، بل ستأخذ وقتها ومداها الطبيعي، حتى يتشربها المجتمع، بجميع فئاته، من خلال الممارسة الفعلية.

كذلك لا تحدث مثل هذه الثقافة بمجرد إصدار قانون، بين فينة وأخرى، أو إطلاق تصريحات، وإنما تحدث من خلال العزيمة الصادقة، وإصدار القرارات التاريخية الجريئة التي تكون على مستوى الحدث الكبير الذي يعيشه وطني الجريح، من قبل أعلى السلطات.

وعليه وجب وبسرعة وضع الإستراتيجيات الكفيلة لتحقيق ذلك، وإشراك جميع الفئات المعنية في وضع أسسه، باتباع الأدوات الديمقراطية الحقة، وأقصد وجود حاجة ماسة إلى انتخاب مجلس تأسيسي، يضع دستوراً ينطلق بالوطن إلى آفاق الديمقراطية الحقة. فمن المفارقة أن يكتب الدستور الأول لبلدي في مطلع السبعينات مجلس تأسيسي، ونحرم من هذا الحق المحوري، بعد أربعة عقود من الزمن! فأين التطور المنشود؟

إن وضع الأسس المتينة هو أفضل ضمان فعلي لتماسك المجتمع والنهوض به من عثرته الكبيرة. فالذي يحدث في وطني الجريح، لا يمكن إصلاحه من خلال ترقيعات شكلية، لا تضع يدها على الداء الحقيقي. وإن ما يحدث الآن هو إعطاء المسكنات التي لا تسهم بشكل فعال في حل الإشكال الحقيقي، بل تساهم في استفحال المرض وتعميق الهوة، وتأخذ الوطن إلى آفاق ومنزلقات خطيرة، لا يحمد عقباها.

فالمصالحة الحقيقية مع الشعب، هي بتفعيل مصطلح “الشعب مصدر السلطات”، وتعزيز المواطنة الحقة، المبنية على الموازنة بين الحقوق والواجبات، وإنها بلاشك ستكون المانع والحصن الحصين لهذا الوطن من كيد الكائدين، وطمع المتربصين. وكما يقول المثل المشهور “إن الصورة تغني عن ألف كلمة”. ولكن هذا المثل غير مكتمل، حيث إن الشطر المكمل للمثل يقول، “ولكن الحقيقة تغني عن أكثر من ألف صورة”. فعندما يعيش المواطنون الحقيقة عن طريق تطابق الأقوال بالأفعال، فسيصبحون سفراء حقيقيين لهذا الوطن الصغير في حجمه والكبير بشعبه العظيم، وينقلون الحقيقة المضيئة كأشعة الشمس التي لا يحجبها أي غربال.

أحبك يا وطني واحة خضراء يزرع فيها الخير والحب والنماء بكل أشكاله الحسنة، من نماء لإنسانه الخلاق، المبدع، المكافح الذي عاش على هذه الأرض الطيبة آلاف السنين، والذي بإنسانيته وسجاياه الطيبة يتمنى الخير للجميع بغض النظر عن انتماءاتهم الضيقة، التي يهتم بتفاصيلها ذوو الأنفس المريضة، إلى نماء في بيئته الطبيعية من خلال التوزيع العادل لثرواته، وحفظ لسواحله وأملاكه. وفي هذا رضا لرب العزة والجلالة، وطمأنينةً للشعب، وتحقيقاً لما وعدنا به من أيامٍ جميلة لم نعشها بعد. كما سيفضي ذلك وبدون أدنى شك إلى منعة ورفعة للوطن، لأنه بني على أسس صحيحة

إقرأ أيضا لـ "محمد عباس علي"

العدد 3450 - الخميس 16 فبراير 2012م الموافق 24 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 3:02 ص

      صمود

      الله يعطيك العافيه

    • زائر 2 | 2:42 ص

      أحسنت

      شكراً لك أيها الكاتب فأنت أحد النماذج المضيئة في هذا الوطن الذي يشترك جميع أهله الطيبين في حبه. هذا المنطق العقلاني الذي يصدح به شرفاء هذا الوطن للأسف لا يجد آذاناً صاغية اليوم لكن هذه الآذان الصماء سيخترقها زمجرة الرعد غداً.
      أنا من تراب وماء خذوا حذركم أيها السابلة
      خطاكم على جثتي نازلة وصمتي سخاء
      لأن التراب صميم البقاء وأن الخطى زائلة.

    • زائر 1 | 1:48 ص

      بارك لله فيك

      أنا مؤمن بأننا بعين الله وهو يرى ما نحن فيه، وسترجع البحرين واحة خضراء يزرع فيها الخير والحب بين كل أطياف شعبه إنشاء الله. وما ربك بغافل.

اقرأ ايضاً