العدد 345 - السبت 16 أغسطس 2003م الموافق 17 جمادى الآخرة 1424هـ

خطاب ثقافي يتعالى على تطوير آليات التعامل مع الشارع

أين يكمن مأزق اليسار العربي؟

عبدالله العباسي comments [at] alwasatnews.com

أخطر ما في اليسار العربي عموما واليسار الخليجي خصوصا أنه لا يستطيع أن يطور نفسه فهو يجتر خطابه السياسي والثقافي منذ أكثر من نصف قرن من دون أي تجديد يتناسب مع التطور. إن أخطر مآزقه أنه لم يستطع أن يطور خطابه السياسي والثقافي بحيث يتمكن الشارع العربي من استيعاب أطروحاته.

إن اليسار العربي بحسب اعتقادي تائه أكثر مما تاه بني «إسرائيل» في صحراء سيناء والفارق بينهما أن أؤلئك تاهوا فقط لأربعين سنة بينما تاه اليسار العربي لأكثر من نصف قرن من الزمان أي منذ منتصف القرن الماضي.

فبعد العمل السياسي لأكثر من نصف قرن مازال خطابه غير واضح لدى الشارع فهو مازال كما كان منذ بدايات تأسيس أفكاره ومشروعاته، ولهذا تجده مجموعة محدودة لم تستطع إيصال خطابها إلى الشارع العربي لا لأن الشارع آذانه مسدودة أو أنه غبي ولا يعي أو يستوعب ما يقولون بل لأن القيادات اليسارية هي التي تجهل بأي خطاب تتحدث إلى عقولهم بينما استطاع الخطاب الديني أن يخترق كل الحواجز وربما يقول قائل إن السبب واضح وهو أن الخطاب الديني يتقبله الشارع العربي لأنه شارع إسلامي وطريقه ممهد ثم لأن الأنظمة العربية ذاتها كانت تتجاوب مع الخطاب الديني ظنا منها أنها أسهل انقيادا وطاعة. وقد يسلم الإنسان بصحة هذين السببين مما ساعد أصحاب الخطاب الإسلامي (الديني) على أن يسيطروا على الشارع من دون مشقة. حتى لو سلمنا جدلا بهذه الأسباب إلا أنه بالنظر إلى مختلف أقطار البلاد العربية ومختلف مجتمعاتها يدرك أن فشل اليسار يتجاوز هذين السببين ويتعداهما إلى أسلوب الخطاب الذي يتسم بالترفع واستخدام لغة لا يعيها الشارع.

إنهم بذلك يقعون في تناقض مع أفكارهم ومبادئهم. ففي الوقت الذي ينادون فيه ويصرون على أن قوى اليسار تؤمن بالبساطة والنزول إلى مستوى الشعب تراه يتنكر لهذه النظرية منذ بداياتها ما جعله معزولا عن الجماهير.

فعلى المستوى البحريني نجد الخطاب الثقافي نأى بنفسه عن النزول للشارع وتلمس همومه حتى في أحسن الحالات وفي مراحل انشغال السلطة ثم في مرحلة العداء والقطيعة التي كانت تحدث أحيانا بين السلطة والإسلاميين ما يترك هامشا للدخول من خلاله لو أن أسلحتهم كانت جاهزة وهم على استعداد لاستغلال هذه الفرصة أو الهدنة المؤقتة التي كانت تحدث بينه وبين النظام، أن فشل اليسار العربي يأتي من خلال خطابه الثقافي والسياسي فهو لا يحاول أن ينزل إلى المجتمع بقدر ما يرى أن على المجتمع أن يرقى إلى مستوى خطابه، من هنا جاء فشلهم لأن خطابهم فوقي ولهجتهم لا تتسم بالبساطة وليس في خطابهم سوى البكائيات وانتقاد الأنظمة نظريا وبلغة لا يدركها الشارع نفسه حتى في المجال الثقافي لا يتوقف عن بكائياته.

يذكر أن الروائي الأميركي إرنست همنغواي صاحب مجموعة الروايات المعروفة «عاصفة على السكر» و«الشيخ والبحر» حيث فاز عن الأخيرة بجائزة نوبل سأله احد الصحافيين الأميركان في لقاء أجري معه عن سبب رواج رواياته ونفادها من الأسواق أكثر من بقية الروائيين الأميركان فقال: ليس لدي سحر ولا أظن أنني أقدر منهم لكن ربما يكون السبب هو أنني فرضت على نفسي منهجا مهما هو أنه عند كتابتي لرواياتي أتعمد أن أستخدم الكلمة الأبسط إذا كانت أمامي خمس أو ست كلمات مرادفة أو مشابهة لبعضها بعضا وربما يكون ذلك هو الذي يميزني عن غيري فأنا يستحيل أن أستخدم كلمات تكون أعلى من مستوى الفلاح والعامل وتلميذ المراحل الإعدادية.

اكتشف همنغواي بهذا الأسلوب طريقه الى قلب القارئ الأميركي وللشارع الأميركي. أما بالنسبة إلى الخطاب اليساري الثقافي وحتى السياسي فهو خطاب يقطر منه التعالي وكان كتاب اليسار وهم يكتبون مقالا أو قصة أو رواية تجدهم يستخدمون أكثر الكلمات صعوبة وإيغالا في القدم أو حتى الحداثة ما يجعل بسطاء الناس يهربون منها لأنها فوق مستواهم، فهم كما يبدو يتلذذون في تعذيب القارئ ظنا منهم أنهم بذلك يستخدمون آليات القيادة.

فاليسار العربي هو الذي تبنى قبل غيره شعر النثر وحاول تبني هذا الفن على اعتبار أنه يحاول أن يهدي الشعب فنا تجريبيا من دون أن يدرك أن ذلك سيبعده عن الشارع العربي بل ويعزله عنه وقد شجعه على ذلك استقبال بعض النقاد المجانين من أمثالهم إلى تبني هذه الألوان الأدبية.

فالشارع العربي تربى أبا عن جد على شعر من النوع الذي تقبله أذناه موسيقى وجرسا، ولقد اعتادت أذن الشارع العربي على الوقع التقليدي لما في هذا الشعر من نغم وموسيقى إلا أن هؤلاء اليسار هم الذين دعوا إلى التمرد على ذوق الشارع العربي وخصوصا لدى البسطاء ما فرض عليهم العزلة، ويحلو لهم الادعاء بأنهم صعاليك إذ يرون أن يتصفوا بهذه الصفة على أساس أن النظام يحاربهم فهم لا مواقع ثابتة لهم.

وقد حضرت إحدى أمسيات المنبر الديمقراطي التقدمي وكانت الأمسية لأحد رموز اليسار، وتعد رمزا من رموز التجربة الشعرية في البحرين ومنطقة الخليج. حضرت الأمسية لا لشيء على رغم الوعكة التي بي إلا لأرى مدى التغير الذي طرأ على فكرها والتجديد الذي أدخلته على خطابها بعد أكثر من ربع قرن لم أسمع لها شيئا.

اختارت موضوعا «لغويا» للتحدث فيه ولكي تعطي هذا الموضوع صبغة اليسار اختارت جانبا غريبا من اللغة واعتبرته أنه استبداد للفرد إذ لا يحلو لأي يساري منهم إلا أن يغوص في عمق البحر ليخرج عناوين الشقاء والعذابات والآلام والاستبداد ويدور داخل هذه المصطلحات سواء كان ذلك شعرا أو نثرا وكأنهم بذلك يطرحون هموم المواطن. المهم أنها اكتشفت بحسب ظنها أن هناك عناصر مستبدة اكتشفتهم في جنح الليل وأنها صاحبة الفضل في هذا الاكتشاف العظيم وجاءت بالمتهم الذي أزعج الجماهير باستبداده فكان المتهم عندها أولئك الذين يستخدمون استهلالات جملهم وكلماتهم بعبارة (مما لا شك فيه ومن المؤكد ولا يختلف عليه اثنان ولا غرو) هذه العبارات التي اعتبرتها كفرا واستبدادا فكيف يفرض المتحدث شيئا من دون أن يذكره؟ كيف يرفع الشك عن موضوع لم يطرحه بعد؟ كيف يدّعي بأنه لا يختلف عليه اثنان وهو لم يذكر القضية. من دون أن تنظر أن هناك ضميرا محذوفا أو كلمات محذوفة. وهذا يجوز في اللغة، فعندما يقول الشخص في استهلاله لا شك يعني (حسب ظنه أو حسب اعتقاده) وخصوصا أنه يستخدم ذلك في طرح قضية منطقية يكاد يجمع عليها معظم الناس.

إن كلامه لا يكون منطقيا ولا يحق له استخدام الاستهلال نفسه مع شيء مجهول لا يعرف عنه أحد على سبيل المثال: أن يكون الحديث عن قتيل لم يره أحد سواه والطبيب مات بسبب إطلاق الرصاص عليه فهنا ليس من حقه أن يقول لا شك في أنكم تعرفون أن القتيل حدث له كذا وكذا.

وهكذا رأت أنها كشفت مجموعة من المستبدين كان المجتمع يجهلهم ويجب تقديمهم إلى المحاكمة.

المهم أن اليسار العربي يبحث عن المستبدين في كل مكان ليكشفهم وليعريهم فهذا هو دوره الحقيقي، وها هي الشاعرة حمدة تمكنت من التعرف على هوية هؤلاء المستبدين الذين يستخدمون تلك الإجحافات الظالمة تجاه جماهير شعبنا البطل. فالمجد لشهدائنا الأبرار ضحايا الاستبداد والقمع.

دخلت الشاعرة إياها بحرا عميقا للغاية أعمق من الغبة التي كان يرتادها الغيص المحترف أيام البحث عن اللؤلؤ فلم تستطع أن تفسر بعمق الفارق بين الاستبداد المقصود والمتعمد وبين مجرد التقليد، وحين سألتها احدي الكاتبات ما البديل؟ لم تتمكن من إيجاد البديل.

وهكذا تتضح الصورة عن مدى الغربة التي يعيشها اليسار العربي حتى صار يشغل نفسه بما لا يعتبر من هموم الشارع، فنحن في واد والشارع في واد آخر تماما مثلما يذكرك بماري انطوانيت في فرنسا عندما وجدت الثوار يطالبون بالخبز تحت القصر قالت لماذا لا تعطونهم (الكاتوه) هذا لأنها كانت تعيش في عالم غير عالم الفقراء.

وحاول مقدم الأمسية الذي تقمص شخصية اليسار عندما يحاول المخرج السينمائي العربي أن يقدم مثقفا يساريا يلبسه نظارة طبية ويترك حول رقبته ربطة عنق من دون أن يربطها وذلك لإظهار انشغاله المستمر بالقراءة والفكر مثل انشغال حكومات عالمنا منذ أكثر من ثلاثة عقود بالتنمية المستدامة ما يذكرك بأن كليهما بعيدان عن الواقع. فلا اليسار العربي يطرح هموم الشارع بصدق ويناضل حقيقة من أجل إنهاء مأساة الناس ولكنه عجز من أن ينجح مثل الحكومات العربية وهي تمارس التعمية حين تتحدث إلى الناس في الصحافة عن التنمية والبناء. وهي أشبه بتلك الأعرابية التي مر بها أحد الخلفاء فوجدها تغلي (صبانا) في القدر ولما سألها لماذا تفعلين ذلك؟ قالت: ماذا أفعل ليس لدي ما أطعمهم به فأحاول إسكاتهم بهذه الطريقة حتى يناموا.

أما الإسلاميون فاستغلوا المرحلة السابقة بكل جدية وصاروا يتحدثون بلغة يفهمها الشارع العربي فلم يترفعوا لا في شعرهم ولا في نثرهم فجاء خطابهم قريبا إلى آذان الشارع العربي يفهم لغتهم ويستوعب ما يقولون فرأى أنه مادامت حكوماته قد حرمتهم من حياة حرة كريمة وديمقراطية تحفظ كرامة الإنسان فمن حقه أن يتفهم أو يمني نفسه بحياة كريمة رغيدة. هكذا نجد أن مأزق اليسار هو في خطابه الثقافي الذي لا يعرفه الشارع بينما حسم الإسلاميون هذه المشكلة بالنسبة إليهم فهم لم يغرقوا انفسهم في شعر النثر ولا في النقد المترفع على فهم الناس ولا على المسرح التجريبي كما يفعل مثقف اليسار العربي معتبرا نفسه مسئولا عن رفع مستوى الشعب لا النزول إليهم مثل الإسلاميين.

إن مأزق اليسار يكمن في خطابه الثقافي المتعالي وعدم محاولته تطوير آليات التعامل مع الشارع

العدد 345 - السبت 16 أغسطس 2003م الموافق 17 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً