لا أثِق في الدول إنْ هي ناطحَت مثيلاتها. فذلك إنْ حصل، فلن يعدو كونه تناطحاً من أجل لقمة هي أسْوَغ من لقمة، أو وجْهاً هو أصْبَح من وجه، أو سِلْكاً هو أنعَم مِن سِلْك، كما فرَضَ ذلك ابن السماك في مُسبِّبات وقوع الحيْف والظلم. لكنني أثِق في صَيحات الشعوب، حين تطالِب، وحين تتطلع وترنو إلى التغيير باتجاه الديمقراطية والحريات وتعزير سلطة القانون على الجميع وفي مختلف الجنايات. قناعتي في الموضوع السوري لا يخرج عن هذا المسار بالضبط.
خلال الأزمة السورية قبل أحدَ عشرَ شهرًا وحتى الآن، فإن مشهدها قائم على عِدَّة صور بالنسبة لي على الأقل. فهناك نظام سياسي قمعي يحكم في دمشق، وهناك شعب سوري عريق له مطالب مشروعة، وهناك حِلفان من الدول والجماعات في الخارج، أحدهما يدَّعي نصرة النظام حفاظًا على حصن العروبة، ودعم المقاومة، وآخر يدَّعي نصرة الشعب حفاظًا على الأرواح والدماء، وهناك أحداث على الأرض، يتنابز النظام وخصومه على شكلها وأهدافها، وتوصيف أصحابها.
ما يهمُّني من كلِّ تلك الصور المختلفة هو الشعب السوري فقط، لأنه بؤرة القضية، أما البقية فهم هامش، هذه ضابطة في الحديث. النظام السوري لطالما ادَّعى أنه يتعرض لمؤامرة تستبطن هذه الأحداث، بل حديثه الدائم عن حرب كونية تشَنّ عليه، كما يحب التلفزيون السوري وإعلام السلطة أن يُسمِّيها ويُروِّج لها.
لكن هذا الأمر بالنسبة لأيّ مراقب منصف، هو غير ذلك. فإن كانت تلك مؤامرة، أو حرباً كونية، فهي من الأمور الداخلة ضمن موضوع تناكف الدول وصراعها. وبإمكان نظام دمشق أن يُعالجها طبقًا لتلك الفرضية، لكن ما يهمنا نحن هو حاجة السوريين إلى أبسط أمور الحياة السياسية السليمة، القائمة على انتخابات حرة ونزيهة، وبرلمان تشريعي حقيقي لا يعشق التصفيق، والقضاء على نظام الامتيازات القائم على الولاءات الشخصية والجماعية والطائفية.
لا يُمكن خلط الأمور في هذا الموضوع. نعم، الجميع سيُدِين التفجيرات، واستهداف المدنيين، والقتل الطائفي والتدخل الإمبريالي في شئون سورية، لكن تلك الإدانة مسحوبة أيضًا على تغييب الحقوق السياسية والمدنية للسوريين. هم لا يريدون أن يعيشوا في زمن «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» لأن هناك حاجات أساسية للمجتمع لا دخل للمعارك بها مطلقاً.
عندما تشاهد الإعلام السوري، تتذكر كلّ الخطابات الخشبيَّة العربية في وصف المحتجين. مُخربين، إرهابيين، خونة، عملاء، طائفيين، أجندات خارجية. ما هذا القاموس الإعلامي السوري قصير النظر! ماذا ترك النظام لهؤلاء المحتجين من نعوت وأوصاف سيئة لم يقلها بحقهم، وكأنهم شياطين الجن والإنس؟! وهل ترك لهم مساحة، يمكنه لاحقًا أن يتكئ عليها حين يضطر إلى محاورتهم والجلوس معهم، أو حتى دعوتهم إلى التفاهم؟! هذه هي المعضلة.
ليس من الدهاء، ولا الحصافة من النظام السوري، حين يُجيِّر المسيرات الضخمة المناصِرة له في الشوارع والساحات، ويوزع صور قيادته على الناس والفقراء، ويمهرها على ملابسهم، وجباههم وفي مكاتبهم، ويزيد من لافتات التأييد والولاء المكتوبة على اللوحات في الطرق والحارات، والاتيان ببيانات التنديد بالتظاهرات وبـ «المخربين» و»الخونة» من جماعات قومية وأقليات دينية، ومن شخصيات دينية داخل سورية وخارجها، من مثقفين زائرين، ونواب من أميركا اللاتينية، وكأننا في حفلة من التأثيم المطلق لجزء من الشعب السوري.
أتذكر، أنه وقبل سقوط نظام العقيد معمَّر القذافي، كان تلفزيون الجماهيرية الليبية يصوِّر السيارات الجوَّالة في شوارع طرابلس وهي ترفع صور القذافي، ويأتي بمواطنين ليبيين ليتحدثوا عن ولائهم المطلق للعقيد القذافي. وفي مرة من المرات التي كنت أتابع فيها تلك القناة، كانت بينهم امرأة ليبية تحدثت بلغة ولائية حادة، لا تحتملها كلمات قواميس العربية كلها ولا حتى مشاعر حب الفقراء الأميين البسطاء في البوربون. تحدثت تلك المرأة بحِدَّة واندفاع وبخطاب لو سمِعَه القذافي لازداد طربًا وثقة بنفسه وبمشروعه وبخياره السياسي. لكن هذا الخطاب ذاته، أصبح زبدًا بعد شهر فقط، حين سقط العقيد.
بل إن هؤلاء ذاتهم، كانوا هم الراقصون ذاتهم في طرابلس الغرب، وفي شوارع مصراته بعد دخول الثوار إليها. مثل هذه الخطابات لا تفيد النظام السوري في هذه الأزمة الطاحنة أبدًا. فهي مُظلِّلة له ولقياداته، ولا تمنحه سوى وجبات دسمة من الولاء المغشوش كما الحُلِي المدسوس وسط التيجان. الانجليز، كانوا يقاتلون الجيش الجمهوري الآيرلندي لسنوات عديدة، وفي معارك قاسية تخللها قصف وتفجيرات واغتيالات حتى، لكننا لم نسمع مرة في الإعلام البريطاني أن تمَّت مخاطبة جناحهم السياسي بنعوت كالتي نسمعها في الإعلام السوري، وأضرابه من الأنظمة بحق معارضيه.
كذلك الحال بالنسبة إلى الأسبان خلال صراعهم مع منظمة إيتا في الباسك. هذه القضية يجب أن يعيها النظام السوري. لا مجال أبدًا للخلط بين الحقوق السياسية وبين ما يقوله النظام من مؤامرة. بالتأكيد، هناك حديث صهيوني بشأن تقسيم سورية، ومنح الأكراد والعلويين والآشوريين دولة كلّ على حِدة، وهو أمر مرفوض ومُدان، لكن ما هي الصِّلة بين أن ندين هذا وبين مقتل 500 طفل في سورية، واعتقال عدد مثلهم؟! هنا القضية، والفاصل في الموضوع.
صحيح أن النظام السوري لا يزال متماسكاً. ولم ينشق عنه محافظ مدينة، فضلاً عن وزرائه وسفرائه، وما زالت الطبقة الوسطى والتجارية السُّنيَّة والمسيحية تدعمه، وكذلك الأقليات، لكن ذلك، لا يمنح الشرعية له في عدم التحوّل إلى صيغة حكم رشيد وتقبله النفس الإنسانية. فالإجماع على المطالب السياسية الحقة ليس مطلوبًا، مثلما لم يكن مطلوبًا في ليبيا عندما كانت مدينة بنغازي هي وحدها مَنْ تطالب بالتغيير.
أكثر ما نتمناه هو أن ينتصر التغيير في سورية، وأن تنجلي ديكتاتورية هذا النظام عن السوريين. وأن نرى مدناً كحَلَب وحمص وحماة ودمشق وهي تنتخب، بكل حرية، ولا أتصور أن ذلك ببعيد
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3446 - الأحد 12 فبراير 2012م الموافق 20 ربيع الاول 1433هـ
مقال رائع
صحيح اسأل نفسي كل يوم لماذا لم ينشق محافظ او يستقيل سفير من سفراء سوريا لحد الان بعكس ليبيا وهذا ينطبق على ما قاله الامام علي عليه السلام فيهم :((وددت والله ان معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فاخذ مني عشرة منكم واعطاني رجلا منهم ))ويقصد عليه السلام ولاء اهل الشام الكبير لمن يوالونه حتى وان كان ظالماً
الله يحمي سوريا والسوريين من كل الشرور
إليك
لن تتضرر دول ولا مجتمعات فالدول والمجتمعات لا تقف على رجل واحدة . استغنت البرازيل عن اسبانيا واستغنت الولايات المتحدة عن بريطانيا وكافة الجزر في المحيط الهادي عن من كانوا يدعمونها .
تسلم يمينك
كتبت وشرحت وحللت وصدقت.
تحياتي
نطالب بديموقراطية سوريا ولكن
نطالب بديموقراطية تعدديه وليست طائفيه يتم اقصاء وتهميش الاقليات مثلما ينادي البعض
احسنت
أكثر ما نتمناه هو أن ينتصر التغيير في سورية، وأن تنجلي ديكتاتورية هذا النظام عن السوريين. وأن نرى مدناً كحَلَب وحمص وحماة ودمشق وهي تنتخب، بكل حرية، ولا أتصور أن ذلك ببعيد
رقم 2 التاريخ يعيد نفسه والأقنعة بدت تتساقط
تتكلم عن امبرطورية....الدولة كذا الأسلامية؟ وهذي دولة من ورق وستري كيف سيصلط الله عليها أعداء الأسلام قبل المسلمين مثل قصة صدام وبهرجته بالقوة التي يملكها رغم انه لوحدة جرعها السم مثل ما قال مرشدها
كلا
وهل هناك اكثر من الشاه حليفا للأمريكان؟! عندما انهار نظامة لم تزعزعت امبراطوريتها؟ كلا
ليس ببعيد انشاء الله
شكرا" للكاتب....سوف يجلب سقوط النظام علي دول ومجتمعات ويلات من الذل والهزيمة التي كانت انتصارا" لمدة 30عاما"....وستخسر دولة ومواليها ما زرعته طول السنين لتحصد الحنظل