منطقيّاً، وهذا التصور موجود في ذهن كل شخص سوري كان أم غير سوري، أن هذا النظام السوري لا يسقط إلا بوسيلة غير سوريّة (دوليّة كانت أم عربيّة)، لأنّ الوسائل السورية المستخدمة من قبل المتظاهرين والمعارضة وهندستها يعرفها النظام ويعرف إمكاناتها ومداها، ويعرف كيف ومتى يتم القضاء عليها منذ عقود جاوزت الـ 40 عاماً على بناء دولة على مقاسها، وأسس مجتمعاً مشكك بذاته وبمن حوله، وقام بتحويل هذا المجتمع إلى وضع شبيه بوضع السمك الذي لا يعيش إلا في بيئة تفوح منها رائحة الشموليّة.
لم يتعوّد مجتمعنا السوري رؤية الصح إلا من خلال ما يقوله نظامه، والنظام أوقع هذا المجتمع في وضع لا يسمح له رؤية ذاته إلا من خلاله: أي يضيع عندما يخفي الراعي (ثقافة القطيع)، وذلك ليُسهل على نفسه مهمّة تدمير روح وشروط القوة الواردة من مصادرها الداخليّة لكي لا يبقى غير هذا الخيار الموجع، وهو خيار الاستنجاد بمصادر «القوة» الخارجيّة (عربيّة أم أجنبيّة) للمجتمع، هذا فضلاً عن أن قوة النظام الأمنيّة والعسكريّة والإعلاميّة تعيق السقوط مهما تكن قوة ارتدادها من مصادرها الخارجية (المعارضة السياسيّة في الخارج) أو داخلية (الغليان الشعبيّ) ما يدفع بالمجتمع إلى البقاء في خانة الخوف ليس من القمع فحسب إنما من المستقبل أيضاً هذه المرة.
لذلك نرى أنّ السوريين قبلوا بالمبادرة العربيّة ورأوا فيها فرصة سانحة للنظام حتى يترك السوريين وشأنهم، ولعل المبادرة العربيّة الأولى كانت ورقة مهمة للنظام قبل الشعب، حيث لو قبل بها النظام لخرج منتصراً، والشعب السوري بل حتى المعارضة قبلت بالمبادرة لأنهم يريدون تجنيب أنفسهم ويلات الحروب في وقت يستحق فيه السوريون الحرية واستعادة الكرامة. فالسوريون يعرفون انّ تعريب أزمتهم يعني لهم:
أولاً: المحافظة على الصبغة الوطنيّة للحراك ودحض فكرة المؤامرة، وتالياً إزالة صفة العمالة عن المعارضة في الخارج، هذا فضلاً عن تعريب المسألة السوريّة (ربما) يحقق نوعاً من التوازن في المشهد السياسيّ الداخليّ الذي يتأثر ويُؤثر في المشهد السياسيّ الإقليميّ. أما ثانياً: يُجنِّب السوريين من ويلات الحروب، ومن تواجد العنصر الأجنبي (الغربي) بشكل مباشر، هذا إذا تم التدخل الخارجي.
لكن السؤال: هل هناك رغبة حقيقيّة لدى الغرب بدخول سورية عسكرياً؟ حتى الآن لا، وربما على المدى المنظور أيضاً يصعب التدخل الخارجي. وبعيداً عن العامل الإسرائيلي، ووضع سورية الجيوبوليتيكي وأهميّة النظام الأمنيّ كونه يمتلك الخبرة والمقدرة في تفاصيل دقيقة في الأمور السياسيّة والأمنيّة في الشرق الأوسط، لذا فالغرب يجاهر بالقول وبشكل صريح وجليّ بأنّهم «لن ندخل سورية عسكرياً» لأنّ الظروف والشروط المواتية للتدخل لم تنضج بعد. والحقّ أنّ سورية ليست ليبيا، فليبيا إفريقيّة في جغرافيتها وسكانها، ونحن نعلم أهميّة إفريقيا بالنسبة للغرب خصوصاً بعد التواجد الصيني الكثيف في هذه القارة. إذاً وجود «الناتو» في تلك المنطقة له ضرورة استراتيجيّة قبل أي اعتبار آخر ، غير أن سورية التي هي في عمق العرب وفي بحر من التوتر الأمنيّ والسياسيّ والمجتمعيّ. العراق مثلاً ما زال يعاني من سوء أحواله الأمنيّة، ولبنان في حالة لا حرب ولا سلم بين مكوناته عملياً، لكنه في حالة تأهب.
ويتراءى للجميع أنّ ثمّة أطرافاً تعد العدة للدخول في معركة الصراع التناحري بين مكوناتها المجتمعيّة. «إسرائيل» وان كنا نسمع منها تصريحاً من هنا وهناك بـ «زوال النظام السوري قريباً»، إلا أنّ لا موقف رسمي مباشر من الأزمة السوريّة سمعناه منهم، ومن يدري ربما لن نسمعه أبداً. ولعل هذا الموقف الضبابيّ والغامض من «إسرائيل» يُفهم بأنّ الغرب لم يحسم أمره بعد في «رحيل الأسد» أو بقائه. وإذا كان ثمة من يقول العكس بأنّ الغرب قال كلمته وهو: الرحيل، فإنّ المعطيات تقول: لا، وكل الكلام الغربي عن «رحيل الأسد» هو إسكات الرأي العام (الغربي) ليس إلا.
دون شك ثمّة تطور حاصل في الموقف الغربي من النظام، وهذا مؤشر إيجابي ينعكس على معنويات الثائرين والمعارضة. هذا التطور في الموقف يختلف عن موقفه في السابق (ما بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق وفي فترة ربيع دمشق) حين كان الغرب يطلب من النظام تحسين سلوكه. حتى شروط وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول بعد سقوط بغداد، لم يتضمن سقوط النظام السوري إنّما تضمن تعاونه مع النظام العالمي الجديد، بما يتطلب من تغيير سلوك ومواقف سورية تجاه بعض الأشياء الداخليّة والإقليمية. أما الآن فالوضع مختلف. دخل في الخطاب الغربي مفردة جديدة وهي «رحيل الأسد» حتى وإن لم يكن جاداً، فإن لهذه المفردة دلالاتها، ولعل أهمها ما قاله الأميركان للنظام: «كل الاحتمالات على الطاولة».
والحقّ انّ الأميركان لم يحسموا موقفهم من رحيل أو عدم رحيل الأسد، وهذا الموقف ليس نابعاً من مواقف الروس القابلة للتغيير فور ما يقولونه الأميركان لهم: «حقكم محفوظ». وسيُصعب التفاهم بين الإسرائيلين والأميركيين لحين حدوث تطور في موقف حركة «حماس» من «إسرائيل»، وهذا صعب جداً في ظل تردد «حماس».
ولا نستغرب أنّه حتى زيارة رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة إسماعيل هنية لتركيا نرى أنّ «حماس» وجهت رسالة غير مباشرة لتركيا مستغلةً وضع الكرد بأنّها: مازالت تسبح في بحر إيران. وقال هنيّة أثناء لقائه مع مسئولين كرد في تركيا: «ديار بكرة حرة… والقدس تنتظر صلاح الدين الجديد».
في القضيتين الكردية والفلسطينية، ثمّة أطراف لا تحبّذ العلاقة مع الغرب. حتى وإن تواجد في الباطن الكردي شيء اسمه «نتعامل مع الشيطان إذا كان هذا الشيطان يريد خلاصنا من الاضطهاد» إلا أنّ عموم الشعب الكردي يريد الحفاظ على العلاقة الحسنة مع الشعوب التي يتعايش معها. ويعرف الكرد أنّ لهذه الرغبة أثماناً باهظة، وأنهم أمام مسئوليّة أخلاقيّة ووطنيّة. وهناك قاعدة لا يمكن القفز عليها وهي أنّ الشعوب باقيّة والأنظمة راحلة، ولذلك أثناء الصراع الطائفي في العراق تمنى الكرد من الكرد العراقيين أن يأخذوا في الاعتبار قاعدة مفادها: إذا كان للكرد العراقيين مثلث سني، فإن للكرد في تركيا وسورية محيط سني أيضاً، وهذا يرتب عليهم التزامات ومسئوليات، بالوقوف إلى جانب الشعوب مجتمعياً وسياسيّاً، فهل يستطيع الكرد أن يسحبوا أنفسهم من التجاذبات السياسيّة؟ فمادام الأتراك يتحسسون من شيء اسمه الكرد، فإنّ الكرد لن يكونوا إلى جانب تركيا ومع من يسبح في بحرهم!
ما قلنا أعلاه، مفاده أن الوضع الداخليّ السوريّ صار مهيئاً جداً أن يعيش دون نظام عمره (40) عاماً إلا أنّ الوضع الإقليمي السوري مازال يترنح بين أن بقاء النظام ورحيله. بقي القول إنّ ملامح ضعف النظام واضحة وجليّة يراها كل من المؤيدين والمعارضين في الداخل، وذلك من خلال استهتار الموظف بمهامه كموظف، وفقدان المواد الأساسيّة مثل الغاز والمازوت والبنزين والمواد الأوليّة الأخرى. وصار كل سوري يشعر بفقدان الأمان، ويحسب بأنه معرض لكل طارئ سيء، هذا في الوقت الذي يُستهلك الوقت من قِبَل من يبحث عن الحلول في فلك «تعريب» المسألة أو «تدويلها»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3434 - الثلثاء 31 يناير 2012م الموافق 08 ربيع الاول 1433هـ