إن الأصل في الإنسان البراءة حتى تثبت إدانته في محاكمة عادلة تتوافر فيها كل الضمانات القانونية في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة، ومع هذه القرينة القانونية لابد من الاهتمام بالأدلة الجنائية وتوفير الضمانات القانونية لسلامة تلك الأدلة، وكثيراً ما يتبع البحث عن الأدلة مساس بالحريات الفردية للمتهم أو استباحتها، ولما كان الهدف من الإجراءات الجنائية، كما أسلفنا، ليس هو كشف الحقيقة بعيداً عن احترام حرية المتهم؛ ما يتعين معه احترام تلك الحرية وتأكيد ضماناتها، فلا قيمة للحقيقة التي يتم الوصول إليها على مذبح الحرية؛ ذلك أنه من الممكن جداً إجبار المتهم على الكلام لكنه من المتعذر، بل من المستحيل، إجباره على قول الحقيقة.
لقد قضت محكمة النقض المصرية بأنه يجب ألا يعول على اعتراف المتهم مهما كان صادقاً، مادام وليد إكراه مهما كان قدره، وهو الأمر الذي نظمته المادة (19/د) من الدستور البحريني التي تقدم ذكرها، كما نصت على البطلان المادة (128/1) من قانون أصول المحكمات الجزائية والتي تنص على أنه: (لا يقبل في معرض البينة أي اعتراف يدلي به المتهم إذا تبين للمحكمة أن الإدلاء به جاء نتيجة إغراء أو تهديد أو وعد يتعلق بالتهمة المسندة إليه صادر من شخص ذي سلطة وكافٍ في رأي المحكمة لجعل المتهم يفترض لأسباب تبدو له معقولة سيجني فائدة أو ينفي شراً من نوع دنيوي فيما يتعلق بالإجراءات ضده)، وهو القانون الذي حل محله المرسوم بقانون الإجرآت الجنائية رقم46/2002، وتنص المادة (253) منه على ما يلي:
(يحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته، ومع ذلك لا يجوز له أن يبني حكمه على أي دليل لم يطرح أمامه وكل قول يثبُتُ أنه صدر من أحد المتهمين أو الشهود تحت وطأة الإكراه أو التهديد به يُهدَرُ ولا يعول عليه).
ونلاحظ على النصين سالفي الذكر أن المشرّع لم يكتفِ بتحريم وتجريم تعريض أي إنسان للتعذيب المادي أو المعنوي، بل مد ذلك التحريم والتجريم إلى الإغراء أو المعاملة الحاطة بالكرامة الإنسانية، وجرم هذا الفعل وأبطل كل قول أو اعتراف من قِبَلِ المتهم يثبتُ صُدُورَه تحت وطأةِ التعذيب المادي أو المعنوي أو المعاملة غير الإنسانية للمتهم أو حتى مجرد التهديد بها، بمعنى أنه لا يُشترطُ في وسائل التعذيب أن تكون من الخطورة بحيث تؤدي لوفاة المتهم أو حتى أن تترك آثاراً في جسمه، بل بدرجة الاعتداء على حرية المتهم أو المس بكرامته، فإذا صاحب الاعتراف شيءٌ مما تقدم من صنوف التعذيب أو حتى مجرد التهديد بها أو بأحدها، كان البطلان حُكمُ الاعتراف المتولد عنها. وتعليل ذلك البطلان، من الناحية القانونية، أنه من شروط صحة الاعتراف أن يكون ناتجاً عن إرادة حرة. وشرط الإرادة في الاعتراف شرط موضوعي يتوقف عليه وجود العمل الإجرائي ذاته، فالإرادة هي خالقة الاعتراف كعملٍ إجرائيٍ، وبدونها لا يكون له كيان قانوني.
والعجيب أن النص القانوني المُلغى ذي الأصل الإنجليزي الصادر في مطلع القرن الماضي كان أوفق بالمتهم وأصلح له والأعجب أن يأتي مشروع قانون تقدمه الحكومة لمجلس النواب يضيق دائرة الحماية للمعتقلين بأن يعرف التعذيب بأنه ما يسبب ألماً شديداً دون نظر إلى ما توافق عليه العالم بشأن التعذيب وإدانة مجرد التهديد به وليس درجة الأذى الذي يحدثه بجسم أو نفس المعتقل.
ولقد ورد عن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) قوله: (ليس الرجل أميناً على نفسه إذا أوجعته أو ضربته أو أوثقته). ولما كان البطلان هنا متعلقاً بالنظام العام على أساس المحافظة على المصلحة العامة وليس مصلحة خاصة، فلا يجوز التنازل عنه كما لا يجوز افتراض صحته ولو رضي صاحب الشأن؛ لأن رضاه معناه التنازل عن التمسك بالبطلان، وهو أمر غير جائز.
ويتعين على المحكمة متى استشعرت عدم نزاهة الدليل، أن تقضي ببطلانه من تلقاء نفسها. ويكون كذلك إذا عرض المتهم لأي صنف من العنف.عملاً بقاعدة بطلان الدليل المتولد خلافاً للشرعية الإجرائية؛ إذ إنه وعندما يقع الإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات، وتغدو السلطة التشريعية سائرة في ركب السلطة التنفيذية، أو عندما يصل بها الأمر لحد اغتصابها السلطة التشريعية لنفسها، تتربص بالقضاء للقضاء على استقلاله، فتتقهقر حريات الأفراد، وتتسع سلطة الإدارة وتتغول، وتكون أكثر تحرراً من القانون، وهي بطبيعتها نزاعة لذلك، فإذا وقعت أحداث تتفاجأ سلطات الأمن بها، فتظهر بمظهر المقصر غير العالم بما يحدث، وهو أمر غير مستحب من جانبها، في هذه الحالة، فإن سلطات الأمن، فضلاً عما تقوم به من اعتقالات عشوائية، تحاول جاهدة تدارك تقصيرها في منع وقوع الجرائم، باصطناع الأدلة لمن تنسب إليهم ارتكاب الحوادث، وقد تصل سلطة التحقيق في سبيل إثبات ذاتها والحفاظ على هيبتها، لحد ممارسة الاعتداءات الجسمية على المعتقلين، علّها تنتزع منهم اعترافاً يقوم مقام الدليل في إثبات التهمة عليهم، وتعمد من ثم لتأخير عرض المتهمين على قاضي التحقيق؛ مما ينطوي عليه ذلك الاحتجاز، بلا سند، من تعدٍّ على الدستور والمواثيق الدولية الملزمة، وهي تريد من ذلك أمرين أولهما: الإمعان في تعذيب من صمد من المتهمين، وثانيهما زوال آثار التعذيب ممن اعترف منهم مستخدمة في ذلك الإمكانات الطبية الحديثة. ولاشك في أن هذا السلوك يكشف عن قصور وعجز عن كشف الحقيقة، وتقديم متهم بلا تهمة للقضاء، أو بتهمة لكن بغير دليل، أو في أحسن الفروض بدليل فاقد للمشروعية. خارج على الشرعية الإجرائية.
لاشك أن هذا تضليل للعدالة؛ ذلك أن إقامة العدالة يعني تحقيق دليل الاتهام بالقدر نفسه الذي يتم به تحقيق دفاع المتهم، كما أنه تحقيق للتوازن بين خضوع الجميع للقانون، فإذا أصبح الإنسان متهماً فإن ذلك غير كافٍ للحط من كرامته وإيذائه بغية إدانته واعتبار ذلك وسيلة لإقامة العدالة بين أفراد المجتمع. ولقد قيل بحق، إن الإجراءات الجنائية في دولة ما هي الصورة الدقيقة للحريات في هذا البلد، وعليه فإن تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف بجرم نسب إليه، يعتبر هدماً لجانب كبير من جوانب الشرعية الإجرائية، فضلاً عن كونه فعلاً مؤثماً في المواثيق الدولية، وجريمة معاقباً عليها في سائر التشريعات الوطنية على أنها جناية مشددة العقوبة. ولتسقط بالتقادم ويمتد الإختصاص بنظرها للقضاء الدولي إن استغلقت السبل القانونية المحلية على ضحية التعذيب
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الشملاوي"العدد 3432 - الأحد 29 يناير 2012م الموافق 06 ربيع الاول 1433هـ
بارك الله جهودك
ترى هل يفقه القوم ما تقول ؟ وهل يجهل العاملون في الحقل الحقوقي ما تقول ؟ اذن ليس الخلل في الفهم ولا في القراءة وانما الخلل في عدم الرغبة في الفهم والالتزام بنصوص القانون