العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ

من الكلام إلى السياسة

فرق المعتزلة:

في كتابه «الفصل في الملل والاهواء والنحل» يرى ابن حزم الظاهري (الاندلسي) ان الفرق التي تؤمن بالاسلام خمس وهي: أهل السنة، المعتزلة، المرجئة، الشيعة، والخوارج. وافترقت كل فرقة على فرق: أهل السنة. ثم سائر الفرق الاربعة، ففيها ما يخالف أهل السنة، الخلاف البعيد، وفيها ما يخالفها الخلاف القريب. (راجع الجزء الثاني، صفحات 265 - 275).

تصنيفات ابن حزم ليست بالضرورة صحيحة الا انها تعكس ذلك الجدل الممتد من بلاد الرافدين شرقا إلى الاندلس غربا... وهو جدل رافقه الكثير من التشويش السياسي وعدم الدقة في القراءة والملاحظة والنقد. فمثلا يضع ابن حزم الامام الاعظم ومؤسس اول مذهب اسلامي (سني) ضمن فرق المرجئة ويعتبر من ذهب مذهب ابي حنيفة النعمان بن ثابت من اقرب فرق المرجئة الى أهل السنة.

ثم يعود ابن حزم ويصنف الامام الاشعري (ابو الحسن) من بين فرق المرجئة (وهو الشافعي المذهب) ويضعه في مرتبة ابعد من المرجئة افتراقا عن أهل السنة.

هذا التصنيف المشوش دفع الامام ابن السبكي إلى الرد على ابن حزم مفندا رأيه في الاشعري خالصا الى القول «ان ابن حزم لا يحقق مذهب الاشعري، فلا يعير الواقف باعتراضه على الاشعري إمام اهل السنة والجماعة».

مثال ابن حزم يؤكد مسألة مدى التخبط الذي دخل على كتب «الملل والنحل» وادى إلى حصول خلل في قراءة مقالاتها وخلطها إلى درجة ان فقيها كبيرا من طراز ابن حزم اضاع بوصلة رصد الاتجاهات وعدم تمييزه بين العلماء والفقهاء والقضاة وأهل الاعتزال. فهو مثلا يختزل مقالات المعتزلة في جملة قصيرة يقول انهم يتمسكون بها وهي «الكلام في التوحيد، وما يوصف به الباري، ثم يزيد بعضهم الكلام في القدر والتسمية بالفسق والايمان والوعيد» (كتاب الفصل، الجزء الثاني ص 269).

المشكلة في كتب «الملل والنحل» انها تجاهلت التاريخ والتعاقب الزمني للفرق وصلة الوقت بالسياسة ودور الصراع على السلطة في تكوين ثقافة ليست بعيدة عن الخلاف الفكري والطموحات السياسية. فالافكار في النهاية ليست خارج الزمن، وقادة الفرق وشيوخها كانوا جزءا من لعبة الصراع واحيانا نتاج لعبة السلطة نفسها... وهذا ما حصل بالضبط لحركة المعتزلة التي بدأت فرقة كلامية تقول بعض المقالات العامة وترفض العمل السياسي، وانتقلت بعدها إلى فرقة سياسية تفرض كلامها على العامة كمذهب للدولة العباسية وتقمع كل من يخالف رأيها ويعترض على ما تقوله.

فالتحول في فكر المعتزلة بدأ في تلك المرحلة الانتقالية حين اخذت الدولة العباسية تثبت اقدامها وتتحول إلى قوة مركزية تشد مختلف اطراف الخلافة إلى عاصمتها بغداد. آنذاك كان الخليفة المنصور انهى بناء بغداد في العام 145هـ وتصادف الامر مع نجاح عبدالرحمن الداخل في تأسيس دولة الامويين في الاندلس (138 - 172 هـ) الامر الذي اضعف نفوذ الدولة العباسية في المغرب وجعلها تركز قوتها في بلاد الشام وشرقا نحو بلاد فارس والهند.

في عهد المنصور انتشرت المعتزلة وعرفت اقوالها شهرة في اوساط النخب والمثقفين وتحديدا من الموالي والباحثين عن عمل وموقع في عاصمة الخلافة ومدنها الكبرى. وبعد المنصور ازدادت قوة المعتزلة في عهد خلافة المهدي (158 - 169 هـ) وبدأت تتصل برجال الدولة من دون ان يتفق كل شيوخها على الامر. فالعمل السياسي كانت ترفضه بعض فرق المعتزلة الا ان الاتجاه نحو السياسة تغلب بسبب الاغراءات وحاجة الدولة إلى مذهب كلامي تعتمد عليه في صراعها مع المذاهب الاسلامية الاخرى.

وفي عهد هارون الرشيد (170 - 193هـ) وابنه المأمون (198 - 218هـ) صعدت المعتزلة إلى الدولة متسللة من خلال اتصالاتها مع الرشيد ثم المأمون ومستفيدة من فترة الحرب الاهلية التي نشبت بعد وفاة الرشيد وصراع الأمين مع المأمون لمدة خمس سنوات (193 - 198هـ).

في هذه الفترة الممتدة من خلافة المهدي إلى خلافة المأمون ظهرت ثلاثة وجوه مهمة في حركة المعتزلة... واسهمت تلك الشخصيات الثلاث في نقل الاعتزال من الفكر الى السياسة ومن خارج الدولة إلى داخلها وصولا إلى السيطرة الايديولوجية عليها. وهؤلاء الثلاثة هم: ضرار بن عمرو، ابو بكر الاصم، وثمامة بن اشرس النميري.

والغريب في الأمر أن ابن حزم يقول عن أصحاب ضرار إنهم من أقرب المعتزلة إلى أهل السنة. وهذه نقطة عليها خلاف نظرا لتاريخ ضرار (عرفت فرقته بالضرارية) الذي يخالف رأي ابن حزم به. فضرار كان قاضيا في عهد الخليفة هارون الرشيد (170 - 193هـ) وعاصر القاضي الحنفي ابو يوسف صاحب كتاب «الخراج» ولكنه كان على خلاف معه. فضرار بن عمرو الكوفي (ابا عمرو) كان صاحب بدعة من فرق المعتزلة، وانفردت فرقته فقالت بالحاسة السادسة. وقالت ايضا كما يذكر الفخري في كتابه «تلخيص البيان» انه ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في الزيتون زيت ولا في العنب عصير ولا في العسل حلاوة ولا في الصبر مرارة ولا في العروق دم... وانما يخلقه الله عند اللمس أو الذوق أو القطع. فهذه برأيه هي «الحاسة السادسة».

ولا يتوقف ضرار عند هذه النقطة (البدعة) بل انتقل للكلام في السياسة انطلاقا من قراءة خاصة للسيرة والاحاديث والامامة والخلافة. فذهبت معه الضرارية إلى القول: انه لا حجة بعد النبي (ص) في نصوص السنة برواية الآحاد، وانما الحجة بعده الاجماع فقط وما ينقل في الاحكام من اخبار الاحاد فغير مقبولة. فضرار اسقط من الاحاديث النبوية الآلاف وابقى فقط على ما تجمع عليه الأمة.

والاهم من كل ذلك قول ضرار في مسألة الامامة وهو قول خطير يعكس الى حد كبير التغيرات الديموغرافية (السكانية) التي طرأت على بلاد الرافدين والتنوع الفكري الذي بدأ تشهده الخلافة العباسية بسبب الوافدين اليها من اطراف الدولة. فرأي ضرار في الامامية هو مثال ملموس على تحولات اجتماعية اسست لنوع من التوازن السكاني لا اكثرية فيه لقوم على آخرين وبات فيه العرب قوة غير خاصة او مميزة عن غيرها. وحين سئل عن الموضوع ومزاعم «الضرارية» فيه قال مواربة: اذا اجتمع في الامامة قريشي ونبطي، فالنبطي اولى بها لكونه اهون عزلا... اي اقل عشيرة واقل عددا، فاذا عصى كانت شوكته اهون لخلعه. (تلخيص البيان، ص 86 - 87).

شغل ضرار منصب القاضي في عهد هارون الرشيد إلى جوار قضاة المذهب الحنفي وكان شديد التطرف ويناظر مختلف الفقهاء والائمة من أهل السنة والحديث وآل البيت، ويقال ان الامام أحمد بن حنبل شهد عليه فامر القاضي بضرب عنقه فهرب واخفاه يحيى بن خالد.

آنذاك كان ابن حنبل يافعا ومن تلامذة الامام الشافعي ووقع الحادث في فترة كانت الشافعية تميل إلى مذهب الامام مالك وعلى خلاف مع الاحناف. فالحادث حصل قبل ان ينتقل الشافعي إلى مصر ويوفق بين المذهبين الحنفي والمالكي في وقت بقي ابن حنبل يدافع عن مدرسة الحديث الامر الذي جدد معركته مع المعتزلة التي سيطرت على الدولة في عهود المأمون والمعتصم والواثق.

يعتبر ضرار اول الثلاثة من المعتزلة الذي مهد الطريق لصعود بعض فرقها إلى الدولة من خلال السيطرة على مناصب القضاة والولاة والشرطة. وذكر ابن النديم في «الفهرست» ان ضرارا له مقالات كثيرة انفرد فيها عن المعتزلة. والف قرابة 30 كتابا منها الرد على خصومه من المعتزلة. وله ايضا مجموعة ردود عرف منها الرد على الملحدين، والمشبهة، وأهل الملل، والزنادقة، والمرجئة، وأصحاب الطبائع، والنصارى، والخوارج (الازارقة والنجدات)، والواقفة والجهمية والغيلانة والرافضة والحشوية ومعمر والمغيرية والمنصورية. وله ايضا مجموعة ردود على الفضيلية والمحكمة وكتاب عن «رسالة الصوفيين» اضافة إلى رد على ارسطوطاليس في مسائل «الجواهر والاعراض».

مهد ضرار فكريا وسياسيا الطريق امام المعتزلة في عهد هارون الرشيد للوصول إلى السلطة والسيطرة على الدولة في ايام المأمون الذي شهد عهده ابرز قادة تيار الاعتزال واخطرهم سياسيا وهم: الاصم وثمامة وابن داود

العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً