إن التربية نوع من الانضباط الذكي والعاقل والمدروس وليست حرية مطلقة تعطى للطفل، يتصرف بها كيفما يشاء ويبعثرها كيفما يشاء، حتى يدمر نفسه وذويه من دون إشراف أو توجيه، ثم نتشدق ونقول هي التربية الحديثة، فقط لأن اطفالنا يرتدون أحدث الألبسة وآخر صيحات الموضة ولا يتكلمون إلا باللغة الإنجليزية وبها يعبرون عن مشاعر الرفض والقبول لمن حولهم، وكذلك في تعاملهم مع ذويهم وأقاربهم وهم في الوقت نفسه ينتسبون إلى هذه المدرسة أو تلك، وبهذا تكون الأم أو الأب أو كلاهما قد تخلص من عقد كثيرة تركت رواسبها في نفوسهما منذ صغرهما لما عاناه من تربية قاسية ومراقبة شديدة وكبت لرغباتهما ونزواتهما وحساب دقيق وعسير على كل تصرفاتهما، وبحسب اعتقادهما ان من واجبهما تربية صغارهما في مساحة واسعة من الحرية والانطلاق ونبذ القمع والاضطهاد لتعارض الشدة والقسوة مع التربية الحديثة.
إن غياب الوالدين مع اعطاء الحرية للطفل وترك الحبل على الغارب له، خطأ كبير يدفع ثمنه صغارهما فقط... إذ تعتقد الأم أنها إذا سارعت بتلبية رغبات ابنها المتكررة والمتتالية فإنها تباعد بينه وبين أي سلوك ملتوٍ ومشين ثم تفاجأ ومن دون أية مقدمات بمن يخبرها بأن ابنها ذو سلوك غير سوي او منحرف، ربما من قبل المدرسة أو إحدى صديقاتها أو أي شخص قريب منها، وقد يصل الأمر إلى ان تبلغ من قبل مركز الأحداث وهنا يصدمها الواقع المر بغلطتها الفادحة، وتقول مبررة لفعلة ابنها: إنني لا أصدق ما أسمع وما أرى، إذ حاولت جاهدة ابعاده عن تربية القمع والشدة والضرب والاهانات والرفض حتى لا يسلك هذا الطريق. إنني ألبي طلباته دائما وأحقق رغباته مهما تكن مستحيلة ومهما كلفتني من المال والجهد، واعتقدت انه في أمان واستطعت ابعاده عن أية انحرافات سلوكية...
واهمة انت يا سيدتي... كان عليك تنظيم هذه الرغبات وقبول بعضها ورفض بعضها الآخر أو تأجيلها لوقت أكثر ملاءمة... فهذا الضبط أو التنظيم المتوازن يساعد على تنمية الشخصية الذكية المتزنة.
ومن الملاحظ ان معظم الأهالي يقدمون إلى أطفالهم المال من دون حساب، فقط لأنه متوافر وكثير، فلما لا يتمتع به الأبناء مادامت الأم غير متفرغة لرعايتهم والأب مشغول بأموره الخاصة؟! وهناك من يقدمون إلى أطفالهم المال على رغم شحته لإبعادهم عن الحاجة وبالتالي السرقة.
هكذا وبكل بساطة تحل مشكلات الأبناء بالمال من دون الانتباه إلى نمط المعاملة أو الأسلوب الذي يتبعه الأهل في تلبية طلبات الطفل، إذ ربما يخاطبونه بأسلوب غير إنساني وهم يقدمون إليه ما يطلبه متجاهلين أحاسيسه وحساسيته الشديدة تجاه الالتقاط ما يسبب معاناته. وهناك من يلبي طلبات الصغار فقط للتخلص من إلحاحهم وبكائهم، وهذا خطأ كبير وفادح يفهمه الطفل ويستغله ويتمسك به، وكان الأجدر بالوالدين الامتناع عن تلبية طلبه أو قبوله بمبررات تقنع الطفل بأن الرفض أو القبول نابع من قناعة الوالدين وليس نزولا عند إلحاحه وبكائه.
إن الأسلوب التربوي المتبع في تربية الابناء في معظم الأسر لم يتغير: إما ان نترك للأطفال حيزا من الحرية الفوضوية يعبثون بها كيفما يشاءون ثم نوهم أنفسنا بأنها تربية حديثة بعيدة عن زمن القمع والإرهاب والشدة، وإما أن نمارس الضغوط النفسية ونمتهن كرامة الطفل ونحقره بحجة أن التربية الحديثة لا تروق لنا... وكلاهما بعيد كل البعد عن التربية الحديثة.
ولا يمكن أن نتجاهل ما تلعبه الخادمة حاليّا من دور بارز ومهم في هذه التربية فهي التي تدير شئون الصغار وتشرف على تربيتهم وتختار لهم ما يلبسون وتطبخ لهم ما يأكلون ثم ترافقهم إلى المتنزهات والمجمعات إلى غير ذلك، والأم في سباتها العميق... بالله عليكم أيعقل أن يعهد إلى خادمة عاجزة عن إدارة نفسها والمحافظـة عليها برعاية الصغار؟!، وهل تتوقعون أن تترك متعتها وحريتها وصداقاتها لتمضي وقتها في رعاية صغاركم وأنتم غارقون في العمل بحجة تأمين مستقبلكم أو مستقبلهم أو مشغولون بالحياة الاجتماعية؟!... لا يمكنك سيدتي الأم الموازنة بين رغباتك وتطلعاتك كإنسانة، وبين تلبية رغبات صغارك العاطفية قبل المادية، الإنسانية ثم التربوية... إنها عملية ضبط وتنظيم ومراقبة تجعلك قريبة جدّا من صغارك وتتيح لك فرصة التعرف على ما هو صواب لترسيخه وما هو خطأ لتقويمه في حينه قبل أن يشب مع طفلك وعند ذلك لا ينفع الندم مهما حاولنا تعليق الأخطاء على شماعة التربية الحديثة
العدد 343 - الخميس 14 أغسطس 2003م الموافق 15 جمادى الآخرة 1424هـ