يفتح عنوان مؤتمرنا «التحولات الديمغرافية وسوق العمل»، الباب لحوار أوسع عن الحاجة للإصلاح الجذري في المنطقة. ومن هذا الباب أطرح تصوري لأوجه الخلل الرئيسية المزمنة في المنطقة والتي هي بحاجة لإصلاح جذري عاجل، حتى يمكننا إصلاح أوجه الخلل الفرعية في مختلف نواحي حياتنا.
وقبل الحديث عن الحاجة لإصلاح أوجه الخلل المزمنة لابد لي أن أتوقف عند البعدين اللذين يركز عليهما عنوان المؤتمر، وهما التحولات الديمغرافية وسوق العمل:
في تقديري ان التحولات الديمغرافية التي أدت إلى اختلال التركيبة السكانية، هي نتيجة للسياسات التي أصبحت اليوم مع الأسف تنكر وجود خلل سكاني، بعد أن تم إيهامنا لعقود بأن حكوماتنا تعمل على إصلاحه وإعادة الدور الرئيسي في المجتمع وفي الإنتاج للمواطنين مثلما هو الحال في جميع دول العالم.
ويتجلى إنكار الخلل السكاني في الفترة الأخيرة في سياسات التوسع العقاري وبناء أحياء ومدن بهدف بيع مساكن فاخرة للأجانب مقابل منحهم إقامات دائمة بصرف النظر عن حاجة العمل إليهم.
وفي دراسة حديثة قام بها مركز الخليج لسياسات التنمية وأعدها زميلي عمر الشهابي وسيقدم عنها ملخصا في هذا المؤتمر، تبين أنه في أربع من دول مجلس التعاون التي أصدرت تشريعات تربط بين شراء العقارات ومنح الإقامة الدائمة لمشتريها، قد تم بناء والتخطيط لبناء أكثر من مليون وثلاث مئة وحدة سكنية تستوعب أكثر من أربعة ملايين وثلاث مئة ألف ساكن. هذا بينما إجمالي مواطني هذه الدول الأربع يقدر بنحو 3.6 ملايين نسمة.
ولعل هذا التوسع العقاري غير المسبوق في العالم، من أجل بيع عقارات مقابل منح إقامات دائمة لمشتريها هو السبب وراء تضاعف أعداد الوافدين في دول المنطقة خلال الفترة من 2004 إلى 2008، نتيجة الحاجة إلى عمالة وافدة كثيفة لتشيد أحياء ومدنا جديدة وما تتطلبه من بنية أساسية مادية واجتماعية في مجال التعليم والخدمات الاجتماعية والترفيه عن المقيمين الدائمين الجدد.
وهنا لا أظنني في حاجة إلى تكرار الإحصاءات المخيفة بشأن تدني نسبة المواطنين في إجمالي السكان وأكتفي بالذكر أن سكان قطر والإمارات على سبيل المثال، قد تضاعف بين عامي 2004 و2008 وتدنت نسبة المواطنين في السكان إلى نحو 12 في المئة بعد أن كانت تناهز 30 في المئة.
ولعل ملاحظتي لتلك الإحصاءات المخيفة هي التي جعلتني أكتب مقالاً نُشر العام 2008 على نطاق واسع بعنوان «استمرار الخلل السكاني اعتداء على حقوق المواطن: بيان إلى من يهمه الأمر». وعلى رغم الاهتمام الأهلي خاصة بذلك البيان، فإنه مع الأسف قيد ضد مجهول وطويت صفحته مع صرخات أخرى حذرت من بناء العمارات وتضييع الإمارات.
ثانيا: سوق العمل أو ظاهرة بطالة المواطنين
البعد الثاني لموضوع مؤتمرنا هذا يتمثل في سوق العمل وربما يشير إلى اختلالها والى ظاهرة بطالة المواطنين. وهذان أيضا مظهران فقط من مظاهر أوجه الخلل المزمنة، ولا يمكن معالجتهما دون القيام بإصلاح جذري.
فمن الصعب حاليا القول بوجود سوق عمل في أي من دول المنطقة، وإنما هناك أسواق عمل وربما كل صاحب عمل هو سوق عمل منعزلة عن بقية أسواق العمل الأخرى. بل إن بعض أصحاب العمل مثل الإدارة العامة والقطاع العام يوجد في كل منها أكثر من سوق عمل أحدها للمواطنين وأخرى لمختلف الوافدين، تختلف في كل منها شروط العمل وميزاته وحرية الانتقال.
وتعود تجزئة سوق العمل في كل دولة من دول المنطقة لكثافة العمالة الوافدة وسياسات استقدامها مباشرة من قبل صاحب العمل (الكفيل) ووفق تفصيلاته الشخصية، للعمل لديه حصرا أو العودة لبلدانها. وبالتالي فإن حرية انتقال العاملين ضمن سوق عمل الدولة غير متاحة وشروط العمل غير متقاربة، لأن مكافأة أغلب المواطنين غير مرتبطة بالجهد والإنتاجية أو الحاجة إلى عملهم وإنما هي شكل من أشكال تدوير عائدات النفط وشراء الرضى السياسي.
وحتى يتغير ذلك يلزم أن تقوم الحكومات بإصلاح سوق عمل المواطنين أولا وربط المكافأة فيها بالجهد واعتماد السياسات اللازمة لتعبئة كل من هم في سن العمل من المواطنين.
ومن ثم تقوم الحكومات نفسها مباشرة بتقدير حاجة سوق العمل الإضافية والقيام من خلال سفاراتها باختيار الوافدين للعمل في حدود تلك الحاجة المؤقتة الضرورية، مراعية في ذلك كفاءة الوافد ومستواه التعليمي ومدى قدرة الوافد على الاندماج في ثقافة المجتمع القادم إليه وإلمامه بلغته. وهذا هو ما يحصل في كل دول العالم التي هي في حاجة لعمالة مؤقتة أو هجرة منتقاة حيث تقوم الدولة نفسها بالتدقيق المسبق في صفات القادمين وفق مصلحة استمرار المجتمع واندماج أفراده وجماعاته والسلم الاجتماعي فيه واعتبارات الحفاظ على لغته وثقافته وهويته الجامعة.
عندها يُلغى العمل بنظام الكفيل تدريجيا، حال عودة المكفولين حاليا للعمل عند صاحب عمل محدد، إلى بلدانهم مكرمين عندما تنتهي تأشيرات زيارة العمل الممنوحة حاليا لكل منهم. وعلى صاحب العمل في المستقبل أن يسد حاجته من سوق العمل المحلية فقد يصبح من حق جميع العاملين في الدولة خارج نظام الكفيل الراهن، بالتنقل من عمل إلى آخر طيلة استمرار تأشيرة العمل الممنوحة لكل منهم لمدة محددة.
والاختلال الأكبر في سوق العمل كما سبقت الإشارة، هو اختلال في سوق عمل المواطنين في دول مجلس التعاون. وهذا الاختلال في تقديري هو مظهر من مظاهر الخلل الإنتاجي - الاقتصادي والخلل السكاني المزمنين في دول المنطقة.
ويعود ذلك ابتداء إلى ضعف تعبئة قوة العمل المواطنة فنسبة مشاركة قوة العمل الموطنة في النشاط الاقتصادي لا تتجاوز 24 في المئة من إجمالي عدد المواطنين في دول المنطقة مقارنة بنسب تصل إلى 40 في المئة في الدول المتقدمة ولا تقل عن 30 في المئة في الدول النامية. ولعل ظاهرة البطالة المرفهة بين المواطنين ولاسيما من لا يسمح تحصيلهم العلمي بالحصول على وظائف عالية تتناسب مع مستواهم الاجتماعي والاقتصادي، هي من بين أسباب تدني نسبة مشاركة المواطنين في سوق العمل.
فهناك أصحاب المخصصات من المال العام وأبناء الأغنياء والمتسربين من نظام التعليم والمرأة المتعلمة، الذين لا يجدون وظائف حكومية سهلة ومرتفعة الأجر، كلهم لا يطلبون عملا ولا يسعون للحصول عليه ما لم تكون المكافأة والمركز الوظيفي فوق مستوى ما يسمح به الجهد المبذول والمستوى المهني بكثير. ويخطئ من يظن أن هذه الفئة قليلة. ففي دراسة قمت بها العام 1995 تبين أن ما يمكن أن نسميه بطالة مرفهة في قطر قد بلغ نحو 12 في المئة من الرجال و88 في المئة من النساء الذين هم في سن العمل وليسوا على مقاعد الدراسة ولا من العجزة.
ويضاف لكل أنواع البطالة المعروفة والمبتكرة سياسات التقاعد المبكر بل توجهات إحالة كوادر وعمالة ماهرة وطنية إلى بند مركزي يستخدم لدفع رواتب الذين يسرحون من أعمالهم دون سبب يذكر «روح بيتكم وخذ راتبك». ويذكر أن أعداد المتقاعدين مبكرا والمسرحين برواتبهم كبير وأغلبهم من خريجي الجامعات وبينهم أفضل الكفاءات الوطنية.
وإذا أضفنا البطالة الظاهرة فإن هناك ما يفوق نصف عدد المواطنين من الذين هم في سن العمل (من غير الأطفال والطلاب والعجزة) خارج سوق العمل, ويمكن تعبئة اغلبهم لو كانت هناك سياسات حكومية واعية بهذا الهدر لرأس المال البشري النادر.
وإذا مددنا سريان تلك النسبة على دول الخليج اليوم حيث مازالت نسبة مشاركة المواطنين في النشاط الاقتصادي أقل من 24 في المئة من إجمالي المواطنين. وحيث تبلغ قوة العمل المواطنة خمسة ملايين ونصف المليون ناشط في العام 2008، فإن تقديرنا لحجم البطالة المرفهة والمتقاعدين قسرا والبطالة الظاهرة، قد يصل إلى أكثر من مليونين ونصف المليون مواطن يمكن تحفيز نسبة عالية منهم على الانضمام لسوق العمل.
وأخيراً وليس آخر يجب ألا ننسى ظاهرة البطالة المقنعة التي اشتهرت بها المنطقة وفاقت دول العالم في معدلاتها، نتيجة لاضطرار الحكومات إلى تكديس المواطنين في الإدارة العامة بسبب فشل سياسات «التنمية» في خلق وظائف اقتصادية مجدية. ولا يمكنني أن أقدر حجم «البطالة المقنعة» لأنها مقنعة، ولكنني أظن أنها كبيرة وواضحة وإن اختلفت من دولة إلى أخرى بسبب اليسر المالي.
وفي الدراسات التي قام بها الزميل خالد اليحيى عن كفاءات توظيف رأس المال البشري في دول المنطقة، تبين أن جهود التعليم والتدريب لم يصاحبها مع الأسف، حسن توظيف للموارد البشرية المواطنة.
وغني عن القول ان توظيف رأس المال البشري وتعبئة كامل قوة العمل المواطنة في دول المنطقة هو مفتاح الحل والسبيل لمعالجة اختلال سوق العمل وضبط التحولات الديمغرافية التي أدت إلى الخلل السكاني المتفاقم
إقرأ أيضا لـ "علي خليفة الكواري"العدد 3420 - الثلثاء 17 يناير 2012م الموافق 23 صفر 1433هـ
اختلال الفكر
ماشاء الله في بلدنا يوجد عقول وكفائات تستطيع تبنان الحقائق ولكن المشكله الكبرى في التطبيق
بعض الحكام في المنطقه يتعاملون مع شعوبهم والبلد التى يحكمونها تعامل الاعداء ويتعمدون تدمير كل ما هو جميل وكل ما هو مفيد .
يجب دفع الضرر وردع المفسد