لم يكن عاماً عاديّاً، بل كان مختلفاً من كل النواحي، ليس فقط عما شاهدناه جميعاً من ثورات سلمية أو دموية واحتجاجات شعبية في كلا العالمين المتخلف الذي نحن جزء منه، أو من العالم المتحضر الذي قاد عملية التطوير الديمقراطي وأسس مبادئها الحديثة. بل ما يلفت النظر ويثير الدهشة في هذا العام هو ارتكاب أكبر جريمة مالية منظمة حصلت في التاريخ، والمفارقة الغريبة أنها حصلت في عقر دار القوة العظمى ومقرها نيويورك، هذه المدينة التي أسست القانون المالي وتسيدت المشاريع المصرفية وأقرضت المنظومات المالية الكبيرة.
كيف يحصل ذلك وأمام أعين الجميع من رجال الأمن والقانون والرقابة المالية؟ من يصدق أن رجلاً واحداً استطاع وعلى مدى سنوات أن يراوغ ويزوّر ويقلب الحقائق، ويخفي الأرقام أمام أباطرة الحاسوب ومبرمجي البرامج الكمبيوترية؟ إنه برنار مادوف الذي استطاع أن يحقق كل هذه العمليات المعقدة ويستولي على أموال تقدر بـ 65 مليار دولار كقيمة ورقية و18 مليار دولار كقيمة نقدية، وهذه الأموال سرقت على امتداد جميع القارات.
إن أسلوب التحايل الذي استخدمه مادوف للاستيلاء على حقوق واستثمارات الآخرين طوال هذه السنوات هو صورة طبق الأصل من أسلوب وطريقة «أسلوب بونزي»، وهو الأسلوب الذي أشار إليه تشارليز ديكنز في كتابه العام 1844 من خلال رواية تحت عنوان: The life and adventure of martim Chazzceuit، وهي الطريقة كما نطلق عليها (تلبيس القحافي)، بإعطاء أو تسليم المستثمرين أرباحاً من خلال الاستثمارات الجديدة التي يضخها المستثمرون الجدد وليس من الأداء العام للصندوق أو الشركة. وقام شارلز ديكنز بطرح هذه الكتاب في مطلع العام 1843 وحتى العام 1844 على شكل مقالات أسبوعية للتحدث عن هذا الأسلوب القادم في عالم المال والطوابق المكملة للسرقة بطريقة مشروعة.
وكان تشارلز بونزي أول من استخدم هذا الأسلوب واستولى على أموال الغير لسنوات عدة قبل أن ينفضح أمره، واليوم وأمام العالم أجمع استطاع مادوف وبأسلوب الاحتيال نفسه، من الاستيلاء على مليارات الدولارات من آلاف من البشر، من المشاهير والسياسيين والنجوم في عالم الرياضة والفن.
ويذكر أن مادوف كان يملك مكتباً يضم بين طياته وزواياه كل أنواع الفن المعماري، وتم تأثيثه بطريقة خرافية لدرجة أن النخبة أنفسهم يتفاخرون ويتباهون فيما بينهم عندما تتاح لهم زيارته في مكتبه. بلاشك كل هذه البهرجة والديكورات الفاخرة كان الغرض منها إشغال المستثمرين عن بواطن الأمور والتركيز على الظواهر، وبهذا حقق مادوف مراده وجنى أموالاً طائلةً من أناس أبهروا العالم في تخصصاتهم وهواياتهم.
لقد استولى على مليارات في عقر دار الإمبريالية، ولما انكشف أمره هو وزوجته فكّرا جديّاً في الانتحار، وهذا ما جاء على لسان روشا مادوف من خلال مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز». وما حصل في عقر دار الإمبريالية حصل لدينا أيضاً، ولكن بطريقة أكثر بدائية. فمن ائتمنوا على حقوق الآخرين ومدخراتهم لم يحسنوا استخدام الثقة الكاملة التي أعطيت لهم لإدارة الأموال. لذلك كانت النتيجة مشابهة لما آلت إليه نتيجة مادوف مع مستثمرين في هذه الجزيرة الصغيرة، الكبيرة برجالها ومفكريها، هناك من استطاع الاستفادة من سمعتها المالية وبنيتها التشريعية القوية في إنفاق جزء كبير جدّاً من أصول المستثمرين وحقوقهم على المكاتب الفاخرة وحفلات الاستقبال الكبيرة وعلاوات السفر والإقامة التي لا حدود لها والرواتب العالية جدّاً والحوافز السنوية التي وصلت في بعض السنوات إلى عشرين راتباً (علاوة) تدفع للموظفين على أدائهم العام. وتم صرف تلك الأموال من موجودات المستثمرين وليس من الأرباح الحقيقية التي تم تحقيقها بل في معظم الأحيان أرباح ورقية (unrealized profits)، ناهيك عن العمولات التي تستقطع من الزبائن للمساهمة في إصدارات جديدة لتأسيس بعض الشركات والتي بلغت في إحداها 40 في المئة.
هذه التجاوزات غير المسبوقة وعلى مدى السنوات أهلكت المستثمرين وشلتهم وبخّرت مدخراتهم. نحن هنا لا نتهم أحداً، ولكن الأرقام لا تكذب ولا تتجمل. فالأسعار الخاصة بكثير من الشركات الاستثمارية أضحت دون القاع والسبب واضح وجلي ولا يستدعي التحليل.
ما فعله مادوف، كان جليّاً للعيان، وهو أسلوب (لبس القحافي) كما يقال في اللغة العامية، وما حصل لدينا هو أيضاً يجاري المثل الشعبي: كريم من مال غيره.
ما يحق لنا أن نقوله إن العام 2011 عام العجائب، ويبدو أن القادم أسوأ بكثير مما رأيناه، لأن الذمم النزيهة لم تعد موجودة، وليس كما هو الحال في أميركا وأوروبا بل وحتى عندنا نحن المسلمين. لذلك فإن أقصى ما نرجوه أن يلطف الخالق بنا، ويبعدنا عن شهوات أنفسنا وينجينا من حب المال الحرام، والربح على حساب الغير، وينعم علينا بحب الخير وحفظ الأمانة، إنه السميع المجيب
إقرأ أيضا لـ "عمران الموسوي"العدد 3411 - الأحد 08 يناير 2012م الموافق 14 صفر 1433هـ
شكرا لك
بوركت على هذا المقال