لايزال الاهتمام بموضوع (التمكين) يتصاعد في الأدبيات الغربية وهو يتضمن منح المواطن الحرية والاستقلال في حركته ونشاطه مقروناً بالمشاركة في اتخاذ القرار وتحمل المسئولية بشكل أكبر. هذا الحماس لتطبيق فكرة (التمكين) يتزامن مع صعود الحركة العالمية لحقوق الإنسان والتوجه نحو تخفيف القوانين (Deregulations) على مستوى الدول ومؤسسات العمل لإعتاق الفرد من الرقابة الصارمة واللوائح البالية ومنحه المزيد من «الحرية» لكي يطلق الإنسان طاقاته وإمكانياته الذاتية بدوافع ذاتية وليس من خلال استخدام سياسة الكرباج.
في تقديري أن من أجمل الدروس لفكرة (التمكين) في موروثنا العربي ما نرصده عند مطالعة سيرة عنترة بن شداد حيث اشتهر بالفروسية والشعر والخلق الكريم. ويتلخص السرد التاريخي لهذه السيرة أن بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من بني عبس فأصابوا منهم، فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم وعنترة فيهم ولكنه لم يشترك في القتال ,خصوصاً أن أباه لم يلحقه بنسبه، وكانت روح عنترة تواقة حتى الثمالة إلى الحرية والانعتاق وهو من صناديد الحرب والهيجاء يذود عن الأرض، ويحمي العرض، ويعف عن المغنم ويتضح ذلك في قوله: (ينبيك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم). فقال له أبوه: كر يا عنترة، فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب والصر، فقال كر وأنت حر، فكر عنترة بعد أن شعر بالحرية (التمكين) وعنترة مثال للفارس الشهم النبيل حتى استحق الثناء من النبي الأكرم عندما ذكر أمامه قول عنترة: (ولقد أبيت على الطوى وأظله ... حتى أنال به كريم المأكل) فقال في حقه الرسول (ص): «ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة».
تاريخياً أيضاً أعتق الإمام زين العابدين عدة آلاف من الموالي لكنه كان قبل عتقهم يعلمهم أحكام الدين ويغذيهم بالمعلومات فيتخرج الواحد منهم محصناً بالعلم والمعرفة و(يمكنهم) مادياً أيضاً فلا يكونون عالة على المجتمع بل أصبح أغلبهم من التجار بفضل سياسة التمكين (Empowerment).
فكرة المقال الأساسية الدعوة إلى ترتيب الأولويات وإلى صناعة وعي بجوهر عملية الإصلاح حتى لا نقع فريسة التسطيح فنحن اليوم نمر بعصر استثنائي لم يمر على تاريخ البشرية مثله، إنه عصر اقترب فيه الجميع من بعضهم البعض، ما جعل من الضروري إعادة النظر في إشراك المجتمع بكل فئاته وطوائفه انطلاقاً من مبدأ القناعة بحرية الفرد وحقوق الإنسان وهذه ليست حلول مبتكرة وجديدة بل نحن أمام تجارب بشرية.
إن تقييد الحريات ظاهرة تكررت على مر العصور وهي النقيض الموضوعي للتبشير بمجتمع متسامح وهو مدار الاختيار. قديماً كانت الحرية تتمركز في يد السيد في قبال العبد لكننا اليوم أمام مؤسسات متنوعة وأهمها سلطة مؤسسة الدولة في قبال حرية المواطن يقول الأديب والناقد معجب الزهراني: (ولعل نفور الوعي الجمعي العام من كل دولة يعود في جزء أساسي منه إلى ما استقر في الذهنية العربية الشعبية والخاصة من صور سلبية عن هذه الدولة التي قد توفر لرعاياها بعض الحماية وبعض الخدمات لكنها تستلب أغلى ما يملك الإنسان، ونعني حريته وكرامته)، ويحضرني تعليق رائع في محاضرة للمرحوم الشيخ الوائلي معلقاً على لحظة سجود السحرة لله وهم أمام الطاغية (فرعون) بأن هناك درساً تاريخياً هو أن الضمير حي في النفوس فلايزال الموقف تراثاً والأمم تقاس بمواقفها والعرب لها قول مشهور (ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام فأكرم حراً تملكه).
نعم لا يمكن دفن الناس تحت الأرض واختزال الجميع فيكمن الجواب في انسحاب المواطن وتشرنقه في زاوية من منزله حفاظاً على حياته وكرامته يعيش كبقية الدواب يأكل وينام. إن أحد أهم معاني القوة هو القدرة على التحرر من القيود فعندما يكون الإنسان حراً فإنه يؤمن بحرية الآخرين وهذا الكلام ينطبق على الحاكم والمدير في مؤسسة العمل والزوج في المنزل والمعلم في المدرسة وفاقد الشيء لا يعطيه بمعنى إذا كان الإنسان حراً حقيقياً، فإن إيمانه بذلك يدعوه لأن يقبل الاختلاف معهم بل وأن يدافع عن حرياتهم يقول جيفارا: (أنا لا أوافق على ما تقول، ولكني سأقف حتى الموت مدافعاً عن حقك في أن تقول ما تريد) لا أن نعادي الآخرين لمجرد الاختلاف معهم في المذهب أو الدين أو المنطقة والبلد أو القبيلة والأشد أن ننبذ الآخر لإيمانه بمنهجية مختلفة في العيش. المشهد في البلدان العربية اليوم يدعونا إلى أن (نجعل من المحنة منحة) بمعنى أن نقدم للإعلام العالمي صورة للتكاتف واللحمة الأخوية والدينية والإيمان بحرية الآخرين وحقهم في الاختيار عوضاً عن التهجم على بعضنا البعض. ماذا فعلت أميركا في إعصار تسونامي وهي محنة؟ أميركا التي تجيد تلفزة التاريخ وإعادة تصويره وتوظيفه كمكنة إعلامية ضخمة أعلنت على لسان كونداليزا رايس «تسونامي كان فرصة رائعة لإظهار وجه أميركا الإنساني». أميركا تتنقل في أرجاء المعمورة لتنقل صورة جميلة لوجهها القبيح! والسؤال كيف نستطيع هنا مخاطبة الجهة الأخرى من الكوكب؟ بحيث نعكس وجه الإسلام الإنساني.
في تقديري لكي نكون أوفياء مع الإخوة و(الأبناء) في الوطن الواحد هناك درس مهم: الشباب ثروة لكن عندما يتم تجاهلهم وتقييد حرياتهم المشروعة فإنهم يتحولون إلى ثورة! لذا يجب النظر إلى تمكين الناس عامة باعتباره أداة مهمة وملحة لتقوية جهاز المناعة الداخلي في المجتمع؟
إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"العدد 3409 - الجمعة 06 يناير 2012م الموافق 12 صفر 1433هـ