العدد 3408 - الخميس 05 يناير 2012م الموافق 11 صفر 1433هـ

الأقباط المصريون في عيد ميلاد السيد المسيح: الحدث والدلالات

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

عيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام حدث مهم وله دلالات بالغة الأهمية بالنسبة لمصر بوجه خاص، وللعرب، بل للعالم بوجه عام ولعل الحدث هو انبلاج نور من الله سبحانه وتعالي وروح طيبة نفخها في القديسة مريم ابنة عمران فأنجبت من دون أن يمسسها بشر. وهذه حكمة وتعبير عن إرادة الله سبحانه وتعالي إذا قال للشيء «كن فيكون» ومن هنا تشابه إلى حد ما خلق المسيح مع خلق آدم أبو البشر عليه السلام ومن هنا حدث الاختلاف والنقاش في وجهات نظر المسيحيين بشأن الطبيعة الخاصة بالسيد المسيح، وهو اختلاف يعبر عن الحب، وعن البحث عن الحقيقة، وعن الإيمان بالسيد المسيح، كمبعوث لله خلقه بطريقة فريدة خاصة لا تتماشي مع خلق البشر جميعاً، ولكن حكمة الله وإرادته تقتضي ما تشاء حيثما تشاء وكيفما تشاء، وحالة الولادة نفسها انطبقت على حالة الوفاة، فتعرض السيد المسيح للقتل والصلب على يد خصومه، وعاد بعد أسبوع ورفع إلى السماء بإرادة الله سبحانه وتعالي، أو رفع منذ البداية وأن الذي صلب مكانه كان تشبيهاً كما يرى القران الكريم، وهذه الاختلافات في النظرة أو في التفسير آو حتى في الرؤية لا تفسد للود قضية، وتظل الحقيقة الكاملة يعرفها الله بالنسبة لأنبيائه ورسله بل بالنسبة للبشر جميعاً، ولهذا قال جل شأنه في القران الكريم: «ولا يزالون مختلفين» (هود: 118) فالاختلاف هنا ظاهرة إيجابية وليست ظاهرة سلبية لأنه يدفع للتأمل والتفكير والبحث الفكري والمنهج النقدي كما يدفع لإثراء الفكر والعمل والحياة ويدفع للتطور ولو اتفق الناس جميعاً على كل الأمور فما كانت هناك ضرورة لهذا الحشد الملياري من البشر عبر العصور والأجيال ولما كانت هناك ضرورة لوجود الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والأنهار وألوان الناس وأعراقهم وهكذا، وهذا من أعظم الآيات الدالة على القدرة الإلهية، وهو ما جاء في الآيات العظيمة في سورة الروم والتي منها قوله: «ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين».

نقول إن خلق السيد المسيح وحياته ومماته كلها حكم ومعجزات ودلالات ولكل نسوق الدلالات التالية:

الأولى ارتباط السيد المسيح وأمه السيدة مريم العذراء سيدة نساء العالمين كما وصفها القران الكريم بأرض مصر، التي هي أرض الأنبياء سواء بولادتهم. سواء بحياتهم ومعيشتهم فيها سواء بهجرتهم إليها، سواء بمصاهرتهم بل إن الأمر يكاد ينطبق بصور متعددة وإن كانت شبه متماثلة مع آل بيت النبي محمد عليه الصلاة والصلاة وتواجدهم أحياء أو أمواتاً في مصر ومزاراتهم على أرضها الطيبة المباركة، وحب المصريين لهم هو حب نابع من الحقيقة المصرية التاريخية، في حب الدين كمفهوم بغض النظر عن الشعائر أو التفاصيل اللاهوتية، الحب المصري هذا هو حب إيماني روحي ربما ينطبق عليه قول السيدة المتصوفة الزاهدة رابعة العدوية بقولها مناجية الله سبحانه وتعالى:

أحبك حبين حب الهوى

وحباً «لأنك أهلاً» لذاكا...

فأما الذي هو حب الهوى

فشغلي بذكرك عمن سواكا...

وأما الذي أنت إلهي أهل له

فكشفك للحجب حتى أراكا...

فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي

ولكن لك الحمد في ذا وذا وذاكا...

وهو أيضاً حب عقلاني معتدل ومتسامح ليس فيه تطرف أو مبالغة. ولهذا قال القرآن الكريم: «ادخلوا مصر إنشاء الله آمنين» (يوسف: 99).

ومن هنا فإن معجزة مصر كدولة وكشعب وكمجتمع تتماشي مع هذا المفهوم في الأمن والأمان والاعتدال، وكم من محن وآلام مرت بمصر ولكنها تغلبت عليها بعبقرية فريدة، كثيراً ما يعجز المرء عن تفسيرها.

الثانية، إن مصر بصفتها أرض الأنبياء إذا جاز مثل هذا التعبير فإنها أصبحت حامية حاضنة للتراث الديني اليهودي والمسيحي والإسلامي في روحه المتسامحة المعتدلة، ومن ثم فإن الصراع بين الطوائف والعقائد نادراً ما يحدث وعندما يحدث سرعان ما يعود العقل والاعتدال والتسامح وتكون له الغلبة.

الثالثة ذات بعد استراتيجي ديني وهو أن أول كنيسة بنيت كانت في مصر العام 70 بعد الميلاد واضطلع بهذه المهمة القديس مرقص ولذلك سميت الكنيسة المرقصية، وهي كنيسة الإسكندرية وظلت باقية حتى الآن، وربما بنيت كنائس صغيرة أو أشباه كنائس في مناطق أخرى من العالم، ولكنها زالت أو تغيرت وبقيت كنيسة الإسكندرية كمركز رئيسي لفريق ضخم من اتباع السيد المسيح من المسيحيين المصريين وفي إثيوبيا وبعض المناطق الأخرى... وأكاد أقول إن الأزهر الشريف الذي يعتمد التسامح والاعتدال منهجاً، باعتبارها من أقدم المراكز الإسلامية، والذي يزيد تاريخه عن ألف عام منذ بناه الفاطميون العام 969 ميلادية، بعد فتح مصر وإقامة الدولة الفاطمية، ولكن الأزهر اختلف عن نية بناته وأصبح منارة ترفع راية التسامح والاعتدال واحتضن المذهب الشيعي كما احتضن المذاهب السنية، تعبيراً عن روح التسامح في مصر وشعبها. ويمكنني تجاوزاً في استخدام المصطلحات أن أقول إن الدين أي دين أو مذهب عندما ينتقل إلى مصر يأخذ طابعاً مصرياً أي يبتعد أنصاره عن التشدد والتطرف ويعتنقون التسامح في عقيدتهم وفي تعاملهم مع الآخرين. ولقد التقيت في حياتي بيهود كثيرين في مواقع مختلفة من العالم من أصول مصرية ووجدتهم يتأسون على روح التسامح المصرية التي افتقدوها بعد مغادرته أرض الكنانة، كما علمت من الأجيال السابقة من المصريين كيف كانت روح التسامح بين اليهود والمسلمين والمسيحيين تسود.

الرابعة مأساة العالم المعاصر وهي خلط الدين بالسياسة. هذا الخلط ربما كان له مبرره في بداية نشأة الأديان بحكم الضرورة والظروف وبناء النموذج ولكن لا منطق له من وجهة نظري في العصر الحديث حيث مفهوم الوطنية هو المفهوم الأسمى من دون تعارض أو إنكار لأهمية الدين ومكانته المقدسة بالنسبة لأصحاب كل عقيدة، ولكن في تقديري أن المفهوم الصحيح للدين يعني أنه مستودع القيم والمبادئ والمثل العليا التي تشترك فيها البشرية جمعاء، ومفهوم الشعائر التي يختلف من عقيدة لأخرى في إطار من التعاون والاحترام المتبادل.

من هنا ندعو لمصر الحبيبة التي في خاطرنا كمصريين بل في خاطر كل عربي بل وحتى الأجانب الذين افتتنوا بحضارة مصر وتاريخها وبموقعها الاستراتيجي ولهذا نقبوا عن هذا التراث العظيم ربما أكثر ما نقبوا عن أي تراث آخر على وجه الأرض بحثاً عن سر الوجود والاستمرارية المصرية وهي استمرارية تغيرت فيها الأطر الخارجية للهوية وظل الجوهر كامناً عميق الجذور يتحدي الزمن كما يتحدي المحن.

تهنئة من القلب لكل مصري قبطي مسيحي، ولكل مصري قبطي مسلم، فمصر وردت في القران والإنجيل والتوراة بتصحيف بسيط في الاسم واحتضنت الرسل والأنبياء والمصلحين عبر العصور.

وبمناسبة ذكري ميلاد السيد المسيح والعام الميلادي الجديد فإنني أبعث تحية وتهنئة لكل إنسان متدين أياً كانت عقيدته أو مذهبه أو طائفته أو حتى غير متدين مردداً قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه وعليه السلام عن علاقة المسلم بالآخر: «الناس صنفان إما أخ لك في الدين إما نظير لك في الخلق»، وهذه لعمري هي الحكمة البالغة والمستمرة عبر العصور، فالدين من المفترض أن يجمع الناس، ولكن بعض معتنقي الدين والعقائد والطوائف بفهمهم الخاطئ للدين يدفعهم أحياناً للصراع والتشاحن والبغضاء

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3408 - الخميس 05 يناير 2012م الموافق 11 صفر 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً