لا شيء يمنع من البكاء والضحك في آنٍ واحد، ها هنا تشخصت المعاني المتناقضة، في مشهد عانقت فيه التراجديا المعنى الأسوأ للكوميديا. وتزاوج الميتوس مع اللوغوس دون نكاح شرعي وعلى حين غفلة، فولدا حكاية ربيع بأرض سياسية بور لا تعرف الفصول الأربعة. وبدت الفرجة تفرض شكلاً من الإثارة والغموض والمرارة أيضاً. فحينما يحل موعد الدفع بعد وعد بالبيع تأخر كثيراً، وتظهر غريزة الموت في معركة التسلط ضد التحرر، ويجد الشعب مسكنه في الفضاء العمومي، وتمضي لعبة الصبية ببراءة حتى إشعار آخر، وجب أن نمنح فرصة للتفكير».
دون مقدمات نقف هذه الأيام بين عامين لا كالأعوام، عام يمضي تاركاً بين طياتنا شجوناً كثيرة يمتد معظمها لكي يتعلق برقبة العام المقبل، وأحداث خلدت ذكريات ووقائع خطت منعطفاً جديداً على امتداد رقعة جغرافية كبيرة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
سنة تكفي الباحث ليرتاح من تعب المتابعة اليومية للأحداث، ويرتب الأفكار ويعلق جميع الصور أمامه بغية فهم أدق وقراءة أمثل وتحليل أعمق، لما حدث في منطقة كانت لعقود أرضاً بوراً، ومضرباً للمثل في السكون والاستقرار المرادف للموت بلغة الطبيعة.
فهم يكشف على أن ما خلقه الحدث الثوري أو الحراك الشعبي على أرض الواقع تجاوز ثنائية الأنظمة والمعارضة معاً، فهو أفقد الأنظمة الاستبدادية مشروعيتها، كما تخطى المعارضة التي باتت وراءه، ليؤكد على اللارجوع بعد كل هذا إلى الوراء.
قراءة تعلن أن الحراك يفتح آفاقاً وعوالم جديدة دون الحاجة لرائد أو قائد أو زعيم، فالحدث لم يكن صنيع النخب أو الأحزاب بمختلف أيديولوجياتها البائدة. بل ثمرة من ثمار العولمة بحداثتها وهوياتها وأزمنتها المتسارعة، ما أنجب ثورة تعد بنتاً شرعية للعصر بشبكاته العنكبوتية وإعلامه الرقمي وصحافته المواطنة.
تحليل يقود إلى أن ما قدمه الناشطون في الساحات والميادين نموذج متقدم في العمل السياسي الديمقراطي لا علاقة له بالنماذج العتيقة قلباً وقالباً. فهذه التجربة توقفت عند المتناقضات وتوفقت في الجمع بينها، في إطار يستوعب الجميع دون استبعاد أي طرف، في مشاهد كنا نعدها حتى الأمس القريب من نسج الخيال. فالتصقت أذرع الأقباط بأكتاف المسلمين في ميدان التحرير بمصر. وخرجت تظاهرة في سورية البلد القومي العربي تحت شعار «جمعه آزاد» /(جمعة الحرية). وفي اليمن شكلت الفتنة القبلية والتنازع العرقي أساساً لوحدة وهوية جامعة بين الرجال والنساء.
قراءة وفهم وتحليل تفضي بنا إلى الإقرار بحقائق شبه يقينية، حول ما استوعبته الشعوب من الدرس الثوري الذي عرفته المنطقة على امتداد هذه السنة:
الأولى أن الشعوب تخوض معركة الاستقلال الثانية، للتخلص من الاستعمار الجديد، الذي جثم على صدرها فور رحيل الاستعمار الأول، أي أن كل هذه السنوات السالفة في ظل الأنظمة المستبدة لا تعدو أن تكون سوى هدراً سوريالياً للزمان.
الثانية أفول شمس مختلف الشرعيات (ثورية، قومية، دينية، عسكرية وطائفية أو قبلية...) أو ما يعرف بالمنظومات المنتمية لحقبة ما قبل الدولة الوطنية، التي أثبت الواقع فشلها الذريع على جميع المستويات.
الثالثة إيمان الشعوب ـ بعد معاناة طويلة ـ بحكم الشرعية المؤسساتية المحكومة طبعاً وطابعاً بآلية الديمقراطية الدينامية، الرامية إلى تحقيق الحرية والعدالة كمقومات أساسية للمواطنة الحقة دون غيرها من الآليات.
عوداً على بدء للوقوف عند تفاصيل دقيقة، كانت بمثابة فسيفساء تشكل ماهية لوحة اسمها الحدث الثوري، الذي تجاوز صانعيه فصار نموذجاً بكراً بحاجة إلى تأطير نظري ومرجعية فلسفية تحدد بدقة هذه التجربة الأصيلة والمتفردة في التاريخ الإنساني.
تجربة لم تجعل لها نموذجاً مثالياً تسعى إلى تحقيقه على أرض الواقع، كما لم تؤطر أو تخندق نفسها بنموذج سابق تريد استرجاع مجده التليد والسير على خطاه. فالحاجة فيها أساس الإبداع والخلق والابتكار في العمل والتعبير والتدبير. أمر مكن الفاعلين فيها من تحويل البسيط والعادي واليومي إلى وسيلة للتعبير ورمز للنضال وآية للممانعة.
تجربة فرضت على مختلف القوى السياسية الفاعلة في هذه البلدان ضرورة مراجعة برامجها النظرية وتصوراتها لتكون أكثر نضجاً ومواكبة لمتطلبات المرحلة، فيما يتصل بالدولة والمواطنة والحريات والتنمية والحقوق وغيرها.
تجربة استطاعت أن تسمو بصانعيها عن أمراض وعلل تنخر المجتمعات المقموعة، فالنفس الانتقامي من رموز الأنظمة الشمولية التي لم تحترم عقل ولا ذوق ولا أحلام الشعوب في البحث عن حياة جديدة لم يكن حاضراً إلا في حالات قليلة جداً. بل اعتبرت هذه التجربة الكل أبناء وطن واحد يفصل بينهم فيما كانوا فيه يختصمون بالعدل والمساواة وشرعية المؤسسات. فنجاح وانتصار هذه التجربة المحلية الصنع يبدأ من هذه النقطة التي هي بداية الطريق.
المحصلة مما سلف ذكره هي أن التغيير الذي انتظرته الشعوب منذ خروج الاستعمار قبل نصف قرن ونيف، والذي «هرمت» في سبيله كما عبر عن ذلك المواطن التونسي أبلغ تعبير جاء من حيث لم ينتظره أحد. لكن المهمة لم تنتهِ بعد والحدث لم تصنعه ملائكة معصومة، فالكثير من المؤشرات تقود إلى التنبيه أنه من الواجب تجاه الذات وتجاه الوطن، الانتقال إلى مبدأ الشك في كل شيء، حتى يتراءى العكس أمام أعين الجميع، إن أرادت الشعوب الحفاظ على هذه التجربة المتفردة
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3405 - الإثنين 02 يناير 2012م الموافق 08 صفر 1433هـ