يقوم أرييل شارون، لثمانية عشر شهرا، بحملة تدمير دموية لكل مقومات المجتمع الفلسطيني: البشر والشجر، المسكن والمؤسسات، المدرسة ودار العبادة. وقد قامت قوات شارون باعتقال ما يزيد على الثمانية آلاف فلسطيني يقبعون في سجون ومعسكرات اعتقال جماعية اسرائيلية بشعة بلا محاكمة ولا عملية قضائية، ويخضعون إلى شتى أصناف التعذيب. يوما بعد يوم يقدم الفلسطينيون الدليل تلو الآخر على أن الهزيمة والاستسلام هي خيارات غير واردة، وأنهم مصممون على مقاومة الغزاة مهما كانت التكاليف باهظة. ولكن شارون لا يرى الأمور بعقلانية، بل بعقلية السيكو باث، عقلية الاستبداد والقهر التي لا تحسب حسابا لعواقب أفعالها. ان كان حل هذا الصراع في النهاية لن يكون من دون تفاوض بين الطرفين، وإن كان لهذه البقعة الصغيرة من الأرض أن تشهد سلاما ما، فأي مستقل ستحمل زراعة الحقد والبغضاء في قلوب الفلسطينيين وفي ذاكرتهم الجمعية للإسرائيليين؟ لا يرى شارون الأمور من هذا المنظار وهو ما يجعل هذا الصراع مفتوحا على بحر من الدماء والخراب ليس من الصعب رؤية الطرف الخاسر في نهايته.
بيد أن شارون ليس حالة فريدة بل أنموذجا: أنموذج لعمى الاستبداد وعجزه عن رؤية ما يقع خلف غرائز القهر السادية التي تحتل نفوس المستبدين وتودي بهم وبمن يؤمن بهم أو يسلمهم قياده إلى الهاوية. ثمة أكثر من شارون في العالم العربي فتحوا أبواب السجون على مصراعيها لشعوبهم، وزجوا فيها الأعلام والشرفاء، شارونيون تمارس أنظمتهم التعذيب وتعتقل البشر شهورا وسنوات بلا محاكمة أو بعد محاكمات صورية هزلية، تحاصر الأسر وتعصف بموارد الرزق وتغلق سبل الحياة والمعاش، شارونيون يعتقدون أن سلطاتهم وامتيازاتهم ومصادر سيطرتهم قائمة إلى الأبد. في الوقت الذي يرى العالم فيه وجه شارون القبيح على حقيقته وتنطلق صيحات التنديد بإرهاب الدولة الإسرائيلي، ينبغي ألا ننسى شركاء شارون على الجانب الآخر من خط الصراع الأكبر في المنطقة العربية. وفي الوقت الذي توظف الولايات المتحدة كل عنصر من عناصر استبداد النظام العراقي وتجاوزاته لتوسيع العدوان على المنطقة والسيطرة على مقدراتها، يجب تذكير العالم بأصدقاء الولايات المتحدة الآخرين الذي لا انجاز لدولهم ووزاراتهم وأجهزتهم الا الاعتداء على شعوبهم وحقوقها وتبديد مقدراتها وزرع الحقد والبغضاء في قلوب أبنائها.
السودان
ألقى نظام الحكم السوداني القبض على حسن الترابي قبل 14 شهرا من دون التفات لقانون البلاد ولا قرارات المحاكم. بما في ذلك أعلى سلطة قضائية. وقد قام النظام بعد توقيعه على اتفاق ماشاكوس المهين (الذي لا يُقارن الا باتفاق اوسلو سيّئ الذكر) بنقل الترابي من المنزل الذي كان معتقلا فيه في ظل ظروف معتادة نسبيا إلى سجن كوبر البشع، أحد أقدم وأسوأ السجون في العالم العربي. صاحب الترابي في حملة الاعتقالات الأخيرة المئات، وربما الآلاف، من نشطاء حزب المؤتمر الوطني الشعبي الذي يرأسه، بما في ذلك ابراهيم السنوسي ومحمد الأمين خليفة. في هذا العام، يكون الترابي قد تجاوز السبعين من عمره، وقد تعرض قبل أيام قليلة لحادث مؤلم في سجنه، حادث يكثف أبعاد الانهيار الكامل بين الأنظمة العربية الشارونية وشعوبها. فعندما كان المفكر والزعيم الإسلامي الكبير يحاول الوضوء مرتكزا على انبوب ماء مهترئ في السجن المتهالك، كسر الأنبوب مؤديا إلى اصطدام الشيخ السبعيني بحائط من الصخور ما تسبب في شج رأسه وسقوطه مغشيا عليه. في العقد الثامن من العمر، وبعد عدة فترات طويلة وقصيرة في سجون الأنظمة السودانية المختلفة، واعتداء مؤلم على حياته في مطلع التسعينات، وحزمة من الأمراض المختلفة، هل ثمة من مبرر للاعتقال؟
كيف يرى زعماء النظام السوداني الذي لا يفوق تراجعهم في الحرب الا سذاجتهم في التفاوض على السلام، وجوههم في المرآة كل صباح؟ كيف يفسر الجنرال رئيس الدولة، الذي تحولت رئاسته إلى إشراف على سقوط المدن السودانية الواحدة منها تلو الأخرى، ورئيس الظل علي عثمان، الذي أثقلت الاحقاد والجرائم كاهله، وعقلهم الاستراتيجي الفذ غازي صلاح الدين الذي وقع على اتفاق لم يتفاوض عليه لحظة، والمفكر الفيلسوف رئيس حزب الدولة، كيف يفسرون لابنائهم وبناتهم خيانتهم لزعيمهم ومعلمهم، وإلقاءه ورفاقهم القدامى للمرض والموت في سجن كوبر، وزرعهم بذور الكراهية والحقد كما لم تزرع من قبل في تاريخ السودان الحديث؟
الجزائر
في الجزائر، التي تعيش منذ أكثر من عقد من الزمان مجزرة حرب أهلية دموية لا أول لها ولا آخر، ما زال الآلاف من الجزائريين يقبعون في معتقلات لا عدد لها، يتعرض بعضهم لاصناف من التعذيب، بل والقتل تحت التعذيب من دون مساءلة أو مسئولية. أحد هؤلاء المعتقلين هو زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ عباسي مدني، المجاهد في حرب التحرير والقائد الشعبي الذي تحترمه وتقدره قطاعات الشعب الجزائري المختلفة. خلال الأسابيع القليلة الماضية، تعرض الشيخ مدني لأزمة قلبية، وقد تم نقله من مستشفى لآخر وهو يعاني ضيق التنفس وتبعات الذبحة الصدرية، ولا أحد يعرف على وجه اليقين حقيقة وضعه الصحي. النظام الجزائري العسكري. الذي يحتل واجهته المدنية الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، أوصل الجزائر إلى الحضيض، اقتصاديا وسياسيا. وعلى رغم المهرجانات الانتخابية المتعاقبة، لم يعد لهذا النظام من مبرر إلا الحفاظ على امتيازات جنرالات وحفنات من الوزراء الذين لا تساوي سلطاتهم مجتمعين سلطة ضابط أمن متوسط الرتبة. وقد زرع النظام في مختلف مدن الجزائر وجبالها وقراها، بين عربها وقبائلها، من الحقد والكراهية ما لم تزرعه بشاعة الاستعمار الفرنسي ذاته. اليوم، يوشك النظام على إيصال حملة الحقد والكراهية، التي يشرف عليها بامتياز يحسد عليه منذ مطلع التسعينات، إلى مستوى جديد بالإشراف على موت زعيم جزائري وإسلامي كبير في المعتقل.
تونس
ولا تقل الأمور سوءا في تونس عما هي عليه في الجزائر والسودان والعراق. فهنا، ومنذ أكثر من عقد أيضا تعيش البلاد في ظل حكم بوليسي طالما نددت المنظمات الحقوقية الدولية بأساليب الاعتقال والمنع والتعذيب والاضطهاد التي يمارسها. أكثر من ألف من قيادات وكوادر حزب النهضة الإسلامي (الديمقراطي) يقبعون في السجون التونسية بعد محاكمات مضحكة أدارها قضاة بؤساء لصالح نظام قام بتحويل المشهد المدني التونسي إلى تراجيديا محزنة. وحتى المئات القليلة من النهضويين الذين أفرج عنهم في نهاية التسعينات تعيش الغالبية منهم في ظل حال من الملاحقة والحصار الأمني والتجويع لا يعرفها أي مجتمع عربي آخر. الدولة التونسية، التي تتجاوز مديونيتها بالمقارنة مع الدخل القومي وتعداد السكان أي مديونية عربية (بما في ذلك المديونية السودانية) تحولت بكل مؤسساتها ووزاراتها منذ مطلع التسعينات إلى جهاز أمني كبير، لا هم له إلا ملاحقة معارضيه في الداخل والخارج، بحيث أصبح من الصعب التفريق بين وزير أو سفير أو ضابط أمن. وقد سيطر الهاجس الأمني على الدولة التونسية حتى أصبحت أحد أهم مستشاري القمع الرسمي في الوطن العربي، تقدم نصائحها واستشاراتها يمينا ويسارا لمن يرغب أو لا يرغب، وبحيث باتت تونس الرسمية تثير حفيظة دوائر الإعلام والصحافة العربية من الاتجاهات كافة. أي عقل سوغ ويسوغ هذا القدر الهائل من الحقد والكراهية الذي زرع ويزرع في الحياة التونسية، في البيوت التي فقدت عوائلها وفي نفوس الأطفال الذين شبوا ليروا آباءهم خلف قضبان السجون والمعتقلات، هذا إن تصدقت الدولة عليهم بذلك؟ لمصلحة من يستمر هذا التصميم الرسمي على القهر والخوف والاستبداد؟ ألصالح مستقبل تونس وازدهارها، وقد تحول هذا البلد الصغير الى مصدّر رئيس للهجرة واللجوء السياسي، فيما الحياة المدنية أغلقت عليها الأبواب، واقتصاد البلاد يسير نحو كارثة محققة؟
اتجاه معاكس
في عدة دول عربية، من المغرب والبحرين إلى الأردن ومصر واليمن، نشهد انفراجات متفاوتة المستوى في الحياة السياسية والمدنية. أفرج عن كل المعتقلين السياسيين أو غالبيتهم، عُوض البعض عن الإساءات والآلام وأُعطي الآخر فرصة تأسيس حياته من جديد، ذلك على رغم العنف الذي شهدته مصر مثلا في التسعينات، والاستقطاب الذي شهدته الحياة السياسية في بلد مثل المغرب لعقود طوال. لا انهارت أنظمة هذه البلدان، ولا انهارت فعالية القانون والأمن فيها. ما حدث هو العكس تماما، إذ بدأت المجتمعات تلملم جراحها وتعيد بناء اجماعها والاتفاق على أولوياتها الوطنية من جديد.
المدهش في كل هذا أنه كلما ازداد القمع والاستبداد في دولة عربية، ازدادت هذه الدولة قربا من المعسكر الغربي وقيادته الأميركية. ولا ينبغي لأحد ان يُخدع بالحال العراقية، فعندما كانت الدولة العراقية تقصف شعبها بالقنابل الكيماوية كان المستشارون الأميركيون العسكريون في بغداد يقدمون نصائحهم الثمينة للجهد العسكري العراقي ضد إيران. ما حدث في العراق أن قيادته تجاوزت الخطوط الحمراء في علاقتها مع الحلفاء الغربيين، سواء ببرامج التسلح أو بغزو الكويت، وإلا لما سمع أحد في العالم شيئا عن الحرص الأورو-أميركي المتصاعد على الديمقراطية وحقوق الإنسان العراقي. ألم تفتح أبواب واشنطن للحكم السوداني بمجرد أن بدأ حملة القمع والاعتقالات ضد المؤتمر الوطني الشعبي؟ ألم تغدق القروض الغربية بلا حساب على تونس فيما المعتقلات تفيض بالتونسيين والانتخابات تأتي بذات النتائج التي تأتي بها منذ نصف قرن؟ ألم يستقبل الرئيس بوتفليقة في الحرب الأهلية وقوات أمنه تحوّل الجزائر إلى قسمين متساويين، واحد كمزرعة للجنرالات والآخر كمعتقل للشعب الجزائري؟ اليوم، يقول الداعون في واشنطن إلى فرض انتداب أميركي على المنطقة العربية إن دول المنطقة قد فشلت جميعها وإنها بذلك جعلت مجتمعاتها حاضنات للإرهاب.
الحقيقة، أن غالبية الدول العربية لم تفشل وحسب بل تلاشت، تلاشت كدول وولدت من جديد في صورة أجهزة أمن وتعذيب واعتقال. ولكن أحدا ينبغي ألا ينسى الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين هم الذين أعطوا هذه الدول الشرعية، هم الذين سلحوها بأدوات القمع والتعذيب، هم الذين رأوا نخبتها الحاكمة تنهب مقدرات الشعوب ففتحوا لها الحسابات المصرفية السرية، هم الذين مدوا يد العون لهذه النخب لتبني معسكرات الاعتقال وغرف التحقيق البشعة بدلا من المدارس والمستشفيات. غدا، عندما تفقد النخب الحاكمة قدرتها على إدارة الأمور وتأتي القوات الأميركية لإطاحة أصدقائها القدامى، باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ما الذي يجب على الشعوب أن تفعله؟ كيف ينبغي لقوى المعارضة أن تحدد موقفها فيما القوات الأميركية من أمامها والقتلة من النخب الحاكمة من ورائها؟
العدد 34 - الأربعاء 09 أكتوبر 2002م الموافق 02 شعبان 1423هـ