في سياق برنامجها لمحاربة الأمية اقرت الأمم المتحدة خطط عمل منها تشجيع منظماتها الاقليمية والفرعية على وضع تصورات عملية تخدم الغرض المذكور.
ومن تلك التصورات جاءت فكرة «كتاب الشهر»، وتقوم على تشجيع مؤسسات صحافية بنشر كتاب، تختاره منظمة «اليونسكو»، يطبع على نفقة صحيفة محلية وتتبرع بتوزيعه مجانا على القراء.
نجحت المنظمة الدولية في نشر فكرتها دوليا وبات «كتاب الشهر» من تقاليد الكثير من المؤسسات الصحافية في القارات الثلاث. ففي مطلع كل شهر تختار المؤسسة الدولية، بالتعاون مع هيئات مدنية محلية، رواية أو مجموعة ابحاث أو قصة قديمة من مختلف الثقافات واللغات لتعيد اصدارها بالاتفاق مع مؤسسة اعلامية محلية.
نجح المشروع جزئيا، ولم يلق الاهتمام المتوقع أو الشعبية المفترضة، على رغم ان المنظمة الدولية اختارت تشكيلة من الكتب والسير والمقالات والبحوث القديمة التي أدت وظائف ثقافية خطيرة في زمنها.
وتعود قلة التجاوب إلى نوعية الاختيارات واقتصارها على حقل فكري معين وتخصيص جناح محدد من الفكر العربي - الاسلامي بالاهتمام والتعتيم على تراث الأمة والالتفاف حول تيارها التاريخي الكبير. فالاختيارات اتجهت نحو الفروع الصغيرة وأهملت الأصول الكبيرة.
إلى ذلك اقتصر انتباه الهيئة المشرفة على المنظمة الدولية على الكتب «الخلافية» وكأن هذا الصنف من الكتابة هو الوحيد الذي يستحق الاهتمام واعادة الطباعة والتوزيع، الامر الذي اثار الشبهات وفتح الباب امام الكثير من الاسئلة عن الاهداف السياسية الكامنة وراء مثل هذا المشروع الثقافي.
هذا لا يعني ان الكتب التي تبنتها المؤسسات الاعلامية العربية ليست جدية ولا تثير اهتمام القارئ ولكن السؤال:
لماذا معظم الكتب من صنف واحد، ويقتصر على تيار من عشرات التيارات الفكرية التي شهدها التاريخ العربي - الاسلامي؟
آخر الكتب التي نشرتها احدى المؤسسات الاعلامية كتاب عبدالله بن المقفع «كليلة ودمنة» وهو لا يخرج على السياق المذكور من ناحية اشكاليته الادبية أو من النواحي المتعلقة بتاريخ الكتاب وسيرة مؤلفه. فالمؤسسة وضعت على غلاف الكتاب/ الصحيفة: كليلة ودمنة، تعريب عبدالله بن المقفع.
الاشكالية الاولى ادبية تبدأ من كلمة «تعريب» بينما هناك وجهات نظر معاصرة تقول ان الكتاب هو اقرب إلى التأليف أو النقل منه إلى التعريب.
نقل ابن المقفع الفكرة عن الفيلسوف الهندي بيدبا الذي يقال انه وضعها باللغة السنسكريتية في عهد الملك دبشليم وتصرف بها . ووجدت اصول هندية لأبواب متفرقة مما يتضمنه الكتاب. وهناك ترجمات لتلك الابواب منها سريانية وأخرى فهلوية (من لغات الفرس القديمة) إلا ان تلك الابواب لا صلة لها بمؤلف ابن المقفع. الاسلوب واحد (نقل الكلام على ألسنة الحيوانات) إلا ان الافكار مختلفة وغير موحدة.
وهذا النقل (اخذ الاسلوب والمنهج ومغادرة الافكار) ليس عادة قديمة بل استمر إلى أيامنا. فالاديب اللبناني جبران خليل جبران اخذ مثلا اسلوب فريدريك نيتشه في فن رواية الحكم والفلسفة الذي ورد على لسان زارا في كتاب «هكذا تكلم زارادشت» ونقله إلى العربية على لسان المصطفى في كتابه «النبي».
إلا ان كتاب جبران يختلف جذريا عن كتاب نيتشه بل يمكن اعتباره بمثابة رد غير مباشر او حوار متناقض بين المصطفى وزارا. فجبران لم يترجم او يعرب بل نقل الفكرة (الاسلوب التقني) وقام بتأليف كتابه الخاص واضعا افكاره ومفاهيمه عن مختلف قطاعات الحياة ومشكلاتها وحاجاتها في تضاد مع نيتشه.
كذلك يمكن القول عن كتاب ابن المقفع. ومن يقرأ «كليلة ودمنة» يجد ان بيئة الكتاب الثقافية لا يمكن ان تكون هندية سنسكريتية او فارسية - فهلوية. فالمفردات والمفاهيم والاشارات والتنبيهات تنتمي كلها إلى بيئة معاصرة لفترة ابن المقفع وهي بدايات تأسيس الدولة العباسية والصراعات التي شهدتها للسيطرة على السلطة بين الاخوة وأولاد العم. فابن المقفع في سياق تلك الخلافات قام بتأليف كتابه مدرجا فيه افكاره (الارشادية والتوجيهية والتعليمية) من طريق استخدام فكرة بيدبا (الاسلوب التقني) لتمرير مواقفه من سلطة المنصور (الخليفة ابوجعفر) الذي دخل في سلسلة معارك مع أهل بيته وخصوصا عمه عيسى بن علي.
وابن المقفع الذي أسلم على يد عيسى بن علي وتسلم في عهد المنصور رئاسة «ديوان الكتابة» دفع ثمن ذلك الصراع بسبب انحيازه لعم المنصور وانتباه الخليفة العباسي إلى تلك الاشارات والتنبيهات المتعلقة بالعدل والتوحيد في كتاب «كليلة ودمنة». وكانت النتيجة انتقام السلطة وانكسار المثقف.
قصة ابن المقفع قديمة إلا انها تتجدد دائما ولاتزال ماثلة امامنا إلى الآن. واختيارها ليس مصادفة. وهذا يقودنا إلى الاشكالية الثانية وهي سياسية.
لماذا تقتصر الاختيارات على صنف محدد من الضحايا ويتم اهمال عذابات سلسلة من القضاة والعلماء والفقهاء وغيرهم من ادباء وفلاسفة سقطوا ايضا دفاعا عن قضاياهم ودفعوا حياتهم ثمنا لمواجهة الظلم والاستبداد؟
ان تسييس المشروع الثقافي وانحيازه إلى نمط معين من التفكير يلغي الفكرة الاساسية التي قام من اجلها وهي: القضاء على الأمية
العدد 34 - الأربعاء 09 أكتوبر 2002م الموافق 02 شعبان 1423هـ