نتعرض في هذا الحديث إلى التطورات السياسية التي عاشتها أرض الكنانة، في الأيام الأخيرة، وبشكل خاص الأوضاع الداخلية، وإسهام مصر الرائد في معالجة الأزمات والاحتقانات العربية، بعد خروجها من العزلة التي فرضت عليها بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني في نهاية السبعينات من القرن الماضي.

عاشت مصر، مع بداية العام ثورة شعبية سلمية، انتهت بسقوط النظام القديم. وبدأ العمل في صوغ هياكل الدولة الجديدة، وفي مقدمتها إعادة كتابة الدستور. وجرت انتخابات نيابية، انتهت المرحلتان الأولى والثانية منها. وينتظر أن تتم في الشهور القليلة المقبلة انتخابات مجلس الشورى، فانتخاب رئيس الجمهورية، لتتجه بعدها البلاد، وقد كسرت قيودها، إلى مرحلة التنمية والبناء، وتجاوز سلبيات الماضي.

على الصعيد العربي، ساندت مصر بقوة المطلب الفلسطيني الهادف إلى تحقيق اعتراف دولي بالدولة المستقلة. وكان لها دور كبير أيضاً، في قبول فلسطين عضواً كاملاً في منظمة اليونيسكو، على رغم وعيها بما يثيره موقفها هذا من إشكالات مع الإدارة الأميركية، ومن الإسراع في تسعير الحرب الباردة مع الكيان الصهيوني.

مع بداية الأسبوع الذي مضى؛ بدأ الفلسطينيون بالتوافد على القاهرة، تلبية لدعوة من الحكومة المصرية، لمواصلة المصالحة المتعثرة التي استمرت سنوات عدة، برعاية مصرية بين الفلسطينيين. لقد أصبحت الظروف الآن مهيأة لذلك، وبدأت في ظل أجواء الثورة المصرية، والحراك الشعبي الذي يجري في عدد من البلدان العربية، مرحلة مختلفة من المفاوضات من أجل تحقيق الوحدة الفلسطينية.

وما يشجع على التفاؤل، أن حركتي فتح وحماس أعلنتا رغبتهما المشتركة في حل خلافاتهما، على قاعدة المصالحة بين مختف فصائل المقاومة، وصياغة برنامج نضالي جديد، يعتمد القدرات الذاتية للفلسطينيين، ومؤازرة العرب، ولا يعوّل كثيراً على الوساطة الأميركية، ويتصدى للغطرسة الصهيونية، ولحكومة نتنياهو المتطرفة، وصولاً إلى وحدة الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة، والتمسك بحق العودة وبعروبة القدس الشريف. لقد عادت مصر العربية، إلى ممارسة دورها المؤثر في قيادة العمل القومي، كما كان عهدها قبل كامب ديفيد، وفتح فصل جديد في التاريخ العربي، بدأت ملامحه في التشكل، خلاصته استقلالية القرار الوطني المصري، وتراجع التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وعدم الخضوع للابتزاز «الإسرائيلي».

على صعيد آخر، لعبت مصر دوراً رئيساً في التوصل إلى حل مقبول من مختلف الفرقاء، يعيد الاعتبار إلى المبادرة التي طرحتها جامعة الدول العربية، لمعالجة الأزمة المحتدمة في سورية لأكثر من تسعة أشهر. وقد أشارت الحكومة السورية بشكل إيجابي، إلى دور مصر وروسيا في إطلاق مبادرة عملية لتحقيق انتقال سياسي سلمي، ينقل البلد الشقيق، إلى الحالة الديمقراطية، وسيادة مبدأ الفصل بين السلطات وتداول السلطة.

تسربت بعض البنود التي ستستند إليها المصالحة السورية، وفي مقدمة هذه البنود تشكيل حكومة وحدة وطنية، تقود البلاد في الفترة الانتقالية، وتتشكل على أساس منح ثلث المقاعد للمعارضة، وثلث آخر للمستقلين، أما الثلث الأخير، فيكون من نصيب الحكومة. وتشرف هذه الحكومة على إجراء انتخابات نيابية مبكرة، ضامنة حريتها ونزاهتها. وفي هذا السياق، ستعاد صياغة الدستور السوري، بما يتضمن حذف جميع المواد التي تشير إلى تفرد الحزب الواحد بقيادة المجتمع والدولة. وتحوي المبادرة أيضاً، تحديد فترة رئاسة الجمهورية بدورتين رئاسيتين، وألا يقتصر الترشيح لهذه الانتخابات على مرشح واحد.

تعثرت محاولات جامعة الدول العربية، لحل الأزمة لأكثر من شهر، بسبب شكوك متبادلة بين اللجنة الوزارية المشكلة للتدخل في الأزمة والحكومة السورية. وكان تدخل الأمين العام لجامعة الدول العربية أخيراً، هو الذي حال دون انهيار المبادرة، وتدويل الأزمة بنقل ملفها إلى مجلس الأمن الدولي. وهذه أيضاً خطوة أخرى تحسب لمصر، ولانطلاقتها الجديدة في قيادة العمل العربي، باتجاه تعزيز منظومة الأمن القومي، وإعادة الروح للمواثيق والمعاهدات العربية ذات الصلة.

وتأتي في هذا السياق أيضاً، مباركة جامعة الدول العربية، لمبادرة مجلس التعاون الخليجي بحل الأزمة في اليمن، بما يعزز عودة أمنه واستقراره، وقد توجت هذه المبادرة بقيام حكومة وحدة وطنية في البلد الشقيق.

والأمل كبير، في أن تستتبع هذه الخطوات أدوار عربية أخرى، تضطلع بها مصر، تعزيزاً للتضامن العربي، وحفاظاً على الأمن القومي، وتمسكاً بالحقوق المغتصبة والثوابت الوطنية. لكن تحققَ ذلك كله هو رهن لانتقال مصر ذاتها إلى مرحلة الأمن والاستقرار، ووضع حد للانفلات الأمني، وشعور المواطن المصري، بعودة الحياة الطبيعية، وتنشيط مكنة الاقتصاد، وتقديم تسهيلات للحركة الاستثمارية المحلية والعربية، وفتح أبواب مصر للأشقاء العرب، وتنشيط الفعاليات السياحية.

من حقنا في هذا المنعطف التاريخي الذي نشهد تباشيره، أن نضع أيدينا على قلوبنا خوفاً وخشية على شعب مصر ومستقبل مصر، فقد كانت مصر وستظل قلب الأمة النابض، ونهوضها يعني نهوض الأمة، وكبواتها تعني التراجع والهزيمة. لقد بدأ المواطن العربي يشعر بالتفاؤل والأمل باستعادة أرض الكنانة عافيتها، وعودتها إلى ممارسة دورها التاريخي الطليعي في مسيرة النهضة، الذي انتظرناه طويلاً. فإذا بالحوادث المؤسفة الدامية، التي استمرت قرابة أسبوع تفاجئنا، وتودي بالكثير من أحلامنا وتوقعاتنا، وتنال من فرحنا.

والأسوأ من ذلك بكثير، هو الدم الغزير المراق، والمئات من القتلى والجرحى، وتخريب الممتلكات العامة، بما يهدد الوحدة الوطنية في مركز الثقل، ويعيدنا إلى المربع الأول، حيث العزلة والانكفاء والعجز عن مقابلة استحقاق الناس، والتشرنق حول مشكلات الداخل، مع أن تجارب الماضي علمتنا أن مصر المنكفئة داخل حدودها مآلها الحتمي الانهيار والفناء، وأن قوتها هي في لعب دور القائد في المحيط العربي.

ينبغي في هذا المنعطف الخطر المطالبة من دون كلل، بوقف شلال الدم الذي يجري بغزارة... أن يدرك المصريون، شعباً وقيادة، مخاطر الانزلاق إلى الاحتراب في تفتيت مصر وهدر طاقاتها، وتمزيق لحمتها الوطنية، ومصادرة دورها، كقطب الرحى وقلب الأمة. فعسى أن تكون الحوادث الأخيرة سحابة صيف معزولة عن الربيع الذي لاحت تباشير تفتح أزهاره ووروده