مراحل التحول الديمقراطي في مختلف دول العالم تثير إشكالية رئيسية ترتبط بحالة حقوق الإنسان وما تعرضت له من انتهاكات في مرحلة ما قبل بدء التحول للديمقراطية ولعل أشهر الممارسات في هذا الصدد هو تجارب أميركا اللاتينية التي تعرضت في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية والحكم العسكري الدكتاتوري ولذلك أنشأت عدة دول مثل شيلي والأرجنتين والبرازيل والسلفادور وغواتيمالا وربما غيرها من دول أميركا اللاتينية وهي دول ذات نظم جمهورية واستقلت في القرن التاسع عشر بعد حركات تحرر وطني ثم عاشت بعضها مخاضا اشتراكيا وتدخلات من قوة جوار كبرى هي الولايات المتحدة التي أيدت في مراحل كثيرة من تاريخها النظم العسكرية الدكتاتورية لمصالحها الوطنية الخاصة على رغم أن الولايات المتحدة ذاتها أقامت نظاما ديمقراطيا وتطور هذا النظام عبر القرون فلم يكن نظاما مثاليا عندما تم إنشاؤه وإنما تطور مع تطور وعي الشعب الأميركي وهذا ما حدث في مختلف دول العالم التي حققت ديمقراطية يتحدث عنها العالم مثل بريطانيا أو فرنسا أو سويسرا أو ألمانيا أو الدول الاسكندنافية أي انها اتبعت منهجا تطوريا مع تطور الزمن ووعي المجتمعات وبلورة الهوية الوطنية للدولة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.
أما في الدول الإفريقية والآسيوية والتي تضم الدول العربية فإن هناك تجربتين هما تجربة جنوب إفريقيا التي أنشأت لجنة الحقيقة والمصالحة العام 1995 برئاسة القس ديزموند توتو لبحث الانتهاكات التي حدثت في مرحلة ما قبل انتهاء النظام العنصري وضمت اللجنة العامة ثلاث لجان رئيسية وهي لجنة الانتهاكات لحقوق الإنسان للفترة 1994 - 1996 ولجنة التعويض والتأهيل لإعادة إحساس الذين تعرضوا لانتهاكات حقوقهم وإعادة الكرامة لهم وتعويضهم عن سنوات المعاناة واللجنة الثالثة هي لجنة العفو عمن ارتكبوا جرائم وطلبوا العفو عما ارتكبوه من جرائمها لارتباطها بطبيعة عملهم والتعليمات التي صدرت لهم.
أما الدولة الثانية فكان المغرب الذي أنشأ لجنة الحقيقة والمصالحة لبحث الجرائم والانتهاكات التي وقعت في الفترة 1956 - 1999 وأصدرت تقريرها في ديسمبر/ كانون الأول 2005 واستطاعت أن تعيد قدرا كبيرا من الوئام الوطني وقد تحركت اللجنة المغربية لحقوق الإنسان التي كانت معارضة للدعاية للتقرير بلا تردد والإشادة بملك المغرب محمد السادس لمبادرته.
أما الدولة الثالثة والأحدث في هذه الممارسة والتي قامت بمبادرة متميزة فهي مملكة البحرين التي بادر جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة لإنشاء لجنة بحرينية مستقلة لبحث الانتهاكات التي لحقت بالمواطنين أو بالمسئولين عن إنفاذ القانون أو بالأجانب والمقيمين في البلاد أثناء أحداث فبراير/ شباط ومارس/ آذار 2011 وكانت تجربة رائدة على مستوى الشرق الأوسط بل العالم.
كما ذكر بحق رئيسها محمود شريف بسيوني في تقديمه للتقرير يوم 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، ومن ثم فان من المفيد علميا وسياسيا وثقافيا أن نقدم تحليلا موضوعيا لهذه المبادرة غير المسبوقة بهذا الصدد في النقاط التالية:
الأولى - إن اللجنة جاءت من النظام والسلطة السياسية القائمة بخلاف اللجان الأخرى التي تم تشكيلها بقرار من سلطة جديدة بعد أن زالت السلطة التي وقعت المخالفات والانتهاكات في عهدها. وهذا القرار من ملك البحرين دليل شجاعة ودليل إيمان حقيقي بمنهج الإصلاح والتطور الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان البحريني بل وحقوق كل من يعيش على ارض مملكة البحرين إذ ان عدد الأجانب في البحرين يتجاوز عدد المواطنين وهؤلاء الأجانب يساهمون في بناء الدولة ومن حقهم أن تحترم حقوقهم ويتحقق لهم الأمن والأمان وألا يتعرضوا للترويع أو الاعتداء يكفي أنهم لا يتمتعون بحق الحصول على الجنسية كما يحدث لأمثالهم في الدول الديمقراطية المتقدمة مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا أو الدول الأوروبية.
الثانية - إن اللجان في الدول الأخرى تكونت على أساس شخصيات وطنية من الخبراء من دولها اعتمادا على مبدأ السيادة الوطنية والاستقلال في حين أن اللجنة البحرينية المستقلة تكونت من شخصيات ذات مكانة دولية متميزة وليس من بين أعضائها أي عضو من البحرين وهذا دليل على الاستقلالية الكاملة وخاصة ان أحداث فبراير ومارس أدت إلى انقسام وشرخ عميق في المجتمع البحريني ومن ثم أصبح من الصعب توافر الثقة على رغم أن البحرين شكلت في البداية لجنة من شخصيات بحرينية برئاسة نائب رئيس الوزراء جواد العريض وهو شخصية محترمة وقامت بعمل تحقيق وتدقيق مماثل ولكن تقديرا لمثل هذه الحساسيات فإن الملك اعتمد أسلوبا رائدا وشجاعا بالالتجاء إلى لجنة من شخصيات مستقلة من خارج البلاد.
الثالثة - إنه على رغم أن لجنة تقصي الحقائق لم تحمل اسم لجنة المصالحة والحقيقة مثل لجان جنوب إفريقيا أو المغرب أو لجنة الحقيقة فقط مثل لجان أميركا اللاتينية فإنها قدمت توصيات من شأنها تحقيق مصالحة إذا توافرت النوايا الحسنة من الأطراف المعنية كافة وخاصة أنها قامت بإعداد تقريرها وكتابته بمنتهي الشفافية وأشاد به الكثير من المواطنين والقوى السياسية في البحرين وكذلك المجتمع الدولي ويعد إضافة مهمة لمكانة بسيوني وأعضاء اللجنة في سيرتهم الذاتية ودليلا عن صدقيتهم ونزاهتهم، فاللجنة تلقت جميع المعلومات وحللتها وقدمت ترجيحا لمدى صحة الروايات المختلفة والمتعارضة التي قدمتها الأطراف المختلفة وخاصة أن بعض تلك الأطراف اتسمت إفاداتها بقدر من المبالغة وسجلت اللجنة جميع الحوادث يوما بيوم بل ساعة بساعة بمنتهي الدقة وقدمت اللجنة في كل جزء ما أمكنها استخلاصه من نتائج وفي النهاية تقدمت بمجموعة من التوصيات الواضحة والصريحة بلا أدنى مجاملة.
الرابعة - إن جلالة الملك تلقي التقرير والتوصيات بروح من المودة والتقدير للجنة كما عبر عن ذلك في كلمته في مراسم إطلاق التقرير وتلقيه وان عبر عن اختلافه في بعض الخلاصات التي لا تمس حقوق الإنسان وإنما تمس أبعادا دولية مثل الدور الإيراني أثناء الأحداث والذي اتسم بقدر كبير من التحريض الإعلامي والسياسي وهو ما أشار إليه التقرير ولكن الخلاصة التي قرأها بسيوني ربما لضيق الوقت لم تشر إليها والتدخل الإعلامي الإيراني هو حقيقة عبر عنها أصحابها من السياسيين والقادة الإيرانيين في رسائل للأمم المتحدة وغيرها من المنظمات والمحافل الدولية وهي ليست سرا وكذلك قنواتها الفضائية فضلا عن اتباعها في الدول الأخرى في المنطقة التي كانت تردد رجع صدى تصريحات المسئولين الإيرانيين. ولكن لجنة التحقيق بصفتها لجنة حقوقية لم ترغب في خلط مفهوم الحقوق مع مفهوم العمل الإعلامي أو السياسي أو الاستخباراتي لأن ذلك خارج نطاق عملها وبهذا تجنبت اللجنة ما تقع فيه جمعيات حقوقية في الدول النامية ومن بينها البحرينية بالخلط بين ما هو سياسي وما هو حقوقي متأثرة بأطروحات من لجان وجمعيات مماثلة في بعض الدول المتقدمة التي تحرض على مثل هذا الخلط في الدول النامية وفقا للأجندة السياسية لدولها رغم أنها لا تمارس هذا الخلط في دولها وهذا من المعايير المزدوجة للجان حقوق الإنسان التابعة للدول المتقدمة ولعلني أشير إلى نقاش لي عندما كنت عضوا في المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر وجاءت لجنة الحرية الدينية التابعة للكونغرس الأميركي والتي تصف نفسها بأنها لجنة مستقلة عندما سألتها عن حالة الحرية الدينية في الولايات المتحدة فقال أعضاء اللجنة إن هذا ليس من اختصاصها في حين أن في اختصاصها، وهي منشأة بقرار من الكونغرس وتمول من موازنة خصصها لها الكونغرس الأميركي أن تنتقد حالة الحريات الدينية في الدول الأخرى من العالم ماعدا بلادها. وهذا اكبر دليل على أن كثيرا من لجان حقوق الإنسان في الدول المتقدمة إنما هي في حقيقتها ذات أجندات خاصة وارتباطات مع جهات معروفة في دولها. وهذا لا يقلل من أن هناك لجانا أخرى لها صدقية ولها دور لا بأس به.
الخامسة - إن جلالة الملك اصدر تعليماته على الفور لبحث توصيات اللجنة المستقلة ووضعها موضع التنفيذ وان الحكومة قامت بدورها وعلى الفور بتشكيل لجنة للقيام بهذه المهمة دون أدنى تأخير، وهذا مرة أخرى دليل على الصدقية وحسن النوايا من جانب القيادة السياسية والمطلوب إذاً أن تبادلها القوى السياسية والمجتمعية والجمعيات كافة مثل هذه الحالة من حسن النوايا والعمل من اجل إعادة اللحمة الوطنية لأبناء هذا الشعب الطيب الذي عاش قرونا في تسامح واعتدال وتعاون مع بعضه بعضا قبل أن تظهر على الساحة الاتجاهات المتشددة والمتطرفة ودعاوى الثورات والانقلابات التي جرت على المنطقة العربية كوارث.
هذا لا يعني أن تبقى الأمور على حالها دون تغيير في أية دولة بل يجب أن تلجأ الدول والقوى السياسية للإصلاح ومسايرة التطورات في العالم ولكن بمنهج واقعي يعكس ظروف كل مجتمع وتطوره ويقيم نظما ديمقراطية تعكس طبيعة وأولويات كل مجتمع فالدول التي يطلق عليها دول ديمقراطية في العالم اليوم لم تنشأ نظمها بين يوم وليلة، كما أن لكل دولة منها نظاما مختلفا عن جيرانها. المهم أن تكون هناك وسيلة واضحة لمشاركة الشعب في إدارة شئون بلاده والمشاركة في ثرواتها بما يحقق له الوفاء بمصالحه وتطلعاته السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وفقا لضوابط قانونية واضحة... وهكذا تسير العملية الإصلاحية في سلاسة بعيدا عن التشنجات والتوترات وإنما بتوافق مجتمعي يحقق مصلحة القوى السياسية المختلفة في المجتمع. ولو نظرنا لأحدث تجربة في الكونغرس الأميركي منذ أسابيع قلائل عندما اختلف الرئيس الأميركي وحزبه الديمقراطي مع الحزب الجمهوري بشأن الموازنة والضرائب والتأمينات وبعد فترة من المواقف المتصلبة من الأطراف توصلوا إلى حل وسط لم يرض أيا من الأطراف رضى تاما وإنما أدى إلى تجنب الأزمة والحفاظ على الدولة ومؤسساتها، وهكذا العمل السياسي في الدول هو عمل توافقي وليس تصادميا أو صراعيا
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3382 - السبت 10 ديسمبر 2011م الموافق 15 محرم 1433هـ
تشكيل لجان
لجان لجان الى متى الانسان يريد استرجاع كرامتة و احترامة التي ستضيع بين اللجان الشكلية كما قال التقرير