إلى متى تُخبئُ أبوابك عنا؟
يستطيع الشاعر محمد بنطلحة أن يُدهِشَ الشعر نفسه قبل إغوائه قارءه، كونه يمتلك قَدَراً شاعرياً واستثنائياً يربطه بدم الكلمات في مسارها المعلوم والمجهول، وبسلالات الشعراء والأدباء الذين خبروا سحر الاليغوريا وشراسة الواقع.
وقد أصدر ديوانه «قليلاً أكثر»(2) ، بعد تجارب ترسخت في المشهد الإبداعي ضمن ديوان جامع بعنوان «ليتني أعمى» والجامع لأربع مجاميع سابقة (نشيد البجع، غيمة أو حجر، سودوم، بعكس الماء).
في كل نصوصه الباذخة بالشعر، يؤكد محمد بنطلحة مسارات خطواته الشعرية المديدة، طولاً وعرضاً، وأنه طالع من فجر الكتابة الطهرانية بلغة لا أقنعة فيها؛ فهو منذ الأزل يُقيد أحلامنا المنهوبة في كنانيش سرية، ويجيد سبك تفاؤلاتنا المتصلة بجلد الأنبياء والشهداء.
لذلك، فهو في كل ديوان يعلن دعوته الموصولة بكل الملاحم. منذ نص جلجامش مروراً بامرئ القيس وطرفة ومالك بن الريب والمتنبي وصولاً إلى ذاته التي يقف أمامها، مُجازفاً، يُدون أسرار النفس والحياة والموت وذبذبات الأصوات وآثار أقدام الذين يعرفهم ولا يعرفهم واحداً واحداً... يصنع من كل هذا أثواباً بتلابيب يخبئ فيها، بعناية بليغة، لُعبا وأسلحة وكنايات ومجازات واستعارات وصوراً خاصة جداً.
بيان حقيقة
يا هذا
يا أنا
هل عرفت الآن
لماذا، أنا والمحيط الهادئ
من قبل أن تقفز شمس
العولمة
مثل
كرة
تنس
فوق شبكة المعنى
ونحن نرسم..
ونسكر
ليس في المتاحف،
ولكن
في الهواء الطلق
هل عرفت؟
إذن، أكرر
لا أنا الإسكندر
ولا أنا زوربا
أنا لا أحد.
أنا شاعر مجهول.
(محمد بنطلحة .قصيدة بيان حقيقة).
***
أنتَ ... شاعر الروح المنسية
محمد بنطلحة شاعر من فاس، يحمل من آثار الأمكنة ما يجعل الذكرى رقائق متراكبة إلى جانب سنوات من عمره الشعري الذي يختزن وهج معاني الفضاءات من فاس، انزكان، أكادير، القنيطرة، ايكس أون بروفانس، مراكش، مكناس.. وفي كل هذه الأماكن التي مر بها كانت له أسفار في معارج موازية للشعر العربي والعالمي.
في ديوانه الأخير (قليلا أقل)، وأنا قارئ متتبع لشعره، أحسستُ بحياة أخرى تتخلق من العمق الخفي لتجربته الطويلة، وقد صار محمد بنطلحة يمتلك حرية «مفرطة ومجازفة» في إبداع نصوصه، ضمن خمسة أبواب (قدر إغريقي- ماذا سأخسر؟- المرحلة الزرقاء- جنيالوجيا- نجوم في النهار) حتى إن القراءة النقدية تبدو صعبة ومبكرة لشق أبواب المعاني وتحتاج إلى التأمل المديد والانتظار، فالشاعر مثل الماء، يحمل أسرار الأرض والسماء، يسير ظاهراً وخفياً. أليست صفته من صفات «المجاذيب» الأولياء وهو يقول:
كم ذهبتُ إلى آخر الأرضِ
أنا
الزائلُ
والأزليُّ
كم وفيْتُ للحمائم
وكم غدرتُ بالصقور.
في أحد الأسفار
سَرَطَ القَدَرُ لُعابهُ. وعرضَ عليَّ
في مقابل الجزء الأول من مذكراتي
ثمناً باهظاً:
أن أجعلَ من جسدي
ساحة حرب/وأن يرى
ويسكتَ
على الورق،
هزمتُ
وانهزمتُ
وفي الحقيقة، لم أكن أنا من ذَهَبَ
إلى آخر الأرض
لم أكن أنا صاحب الجبروت
وإنما ظلي .
محمد بنطلحة
ليست للشاعر سيرة معلومة سوى سير نصوصه وما خبَّأه فيها أو ما أرجأه من نُطفٍ حية في صدره الكبير.
ثم سيقول:
« اسم مستعار
عند هيرودوت:هو الذي، حينما عثر على برج بابل في صندوقه البريدي
عثر أيضاً
على
رقعة شطرنج
وحكمة قديمة: أعلى مراتب الحقيقة: الكذب.
واليومَ، حيث كل الحقائق مؤجلة:
النبيذ إلى الغد.
والذكريات إلى حياة غير هذه، ماذا سأفهم؟ في موقع: خلية نائمة. وفي آخرَ: لا ينام أبداً.
أنا
كيف أكون معاصراً له
وكل ما بيننا، منذ ما قبل التاريخ
ظلال
وأقنعة؟
(من قصيدة بعنوان محمد بنطلحة .ص86 - من ديوان قليلاً أقل)
إقرأ أيضا لـ "شعيب حليفي"العدد 3377 - الإثنين 05 ديسمبر 2011م الموافق 10 محرم 1433هـ