أثبتت الوقائع فشل الحكمة التقليدية التي تقول إن «الأسواق تعرف أفضل من الجميع». ويزداد الشك حيال استمرار استراتيجية الوضع القائم، حيث نمو الناتج المحلي الإجمالي هو الأولوية المهيمنة. كان النمو الاقتصادي في القرن العشرين مبنيّاً على الرأسمال المادي والمالي والبشري المتكدس، على حساب الرأسمال الطبيعي والأخطار الاجتماعية. وحصلت مؤخراً جهود ونقاشات جدية في أنحاء العالم عن الاقتصاد الأخضر، الذي يستلزم تغيير صيغ التنمية وإعطاء الاقتصادات أشكالاً جديدة كي تحسن الرفاهية البشرية والعدالة الاجتماعية.
يمكن ببساطة تعريف الاقتصاد الأخضر بأنه اقتصاد يولد نموّاً اقتصاديّاً وتحسينات في سبل عيش الناس، من دون أن يؤذي البيئة. لكن البعض يخشى أن يتصدى الاقتصاد الأخضر لاثنتين فقط من ركائز التنمية المستدامة الثلاث. بالطبع علينا أن نهتم بوضع اقتصاداتنا على مسار أخضر، لكن من دون أن نفقد التركيز على الأبعاد الاجتماعية للتنمية المستدامة. فالعدالة الاجتماعية والاستثمار في صحة الناس وتعليمهم؛ أمور حاسمة في بناء مجتمعات أكثر مرونة واستدامة.
وكما جاء في تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، يهتم الاقتصاد الأخضر بالإمكانات الكبيرة الكامنة في زيادة انتاجية الموارد، وخصوصاً الطاقة والمياه وتخفيض توليد النفايات. وهو يوجه الاستثمارات إلى الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية لزيادة إنتاجيتها الاقتصادية والبيئية وقدرتها على خلق الوظائف ودعم الفقراء. وفي اقتصاد أخضر، تتم ممارسة الحوكمة التشاركية للموارد الطبيعية بتمثيل الجهات المعنية الرئيسية، وخصوصاً المجموعات التي تملك سلطة مؤسسية ضعيفة.
ستؤدي السياسة العامة دوراً رئيسيّاً في التمكين من تحقيق أهداف الاقتصاد الأخضر. ويحتاج إحراز تقدم نحو اقتصاد أخضر عربي إلى إعادة رسم السياسات الحكومية الراهنة. في هذا السبيل، يجب إعطاء الأهداف البيئية والاجتماعية مستوى من الأولوية، تماماً كالأهداف الاقتصادية. ويجب أن يضمن النهج الجديد عدم السعي إلى تحقيق فوائد اقتصادية قصيرة الأجل على حساب الأهداف الاجتماعية والبيئية طويلة الأجل.
لقد حققت البلدان العربية معدلات سريعة من النمو الاقتصادي خلال العقد الماضي، لكن الشرائح الواقعة في أسفل الهرم لم تنل نصيبها العادل من فوائد الطفرة الاقتصادية. ومازالت الاقتصادات العربية تعاني من ضعف بنيوي، ويعزى ذلك إلى انعدام التنوع الاقتصادي، والاعتماد على المنتجات السلعية ذات القيمة المضافة المنخفضة، وسرعة التأثر بتقلبات السوق العالمية. من هذه الناحية، ينص تقرير «أفد» على أن الفقر مستمر، والبطالة مرتفعة إلى حد ينذر بالخطر، وانعدام الأمن المائي والغذائي يشكل تهديداً، والتدهور البيئي للموارد الطبيعية في المنطقة منتشر على نحو غير مكبوح.
هذه النواقص تقوض التنمية البشرية التي هي الأولوية المعلنة للحكومات في المنطقة. وبسبب ارتفاع معدلات النمو السكاني، وسرعة التصنيع والتحضـر، ستزداد الضغوط على الاقتصادات العربية مع تصاعد الطلب على الغذاء والمياه والسكن والكهرباء والنقل والخدمات البلدية. وسيتطلب التصدي لهذه النواقص تغييراً أساسيّاً في نماذج التنمية الاقتصادية العربية، وإصلاحات للسياسات الحكومية، للحث على تحولات في أنماط الانتاج والاستهلاك والاستثمار.
في سياق الاقتصاد الأخضر، أعتقد أن هناك حاجة إلى تحولات مختلفة ضرورية للتنمية المستدامة في المنطقة، وخصوصاً التحولات الأربعة الآتية:
أولاً- تحول طاقوي، حيث يتم إنتاج الطاقة بشكل نظيف واستعمالها بكفاءة من دون زيادة المشاكل البيئية الإقليمية والعالمية.
ثانياً- تحول اقتصادي إلى نمو مستدام ومشاركة أوسع في فوائده.
ثالثاً- تحول في الموارد إلى الاعتماد على «دخل» الطبيعة وعدم استنزاف «رأسمالها».
رابعاً- تحول ديموغرافي إلى استقرار سكاني في المنطقة.
سيكون من الضروري أن تبذل الحكومات والشركات وأصحاب الأعمال والاختصاص جهوداً حثيثة وجماعية لتعزيز هذه التحولات وغيرها إلى اقتصاد أخضر. ويصف تقرير «أفد» بوضوح عوامل الخطر على المنطقة وسكانها، داعياً إلى الاهتمام بفوائد العمل الاقتصادي والبيئي والاجتماعي والسياسي. وسيحتاج هذا العمل إلى قيادة على أرفع المستويات في الحكومات والشركات. إن الرؤى الكبرى والخطابات البليغة وحدها لا تؤدي إلى الغاية، فالرؤية من دون خطط والخطط من دون فعل لا تحقق الكثير.
وكما أشارت تقارير «أفد» السابقة؛ فإن بطء التقدم في تحسين نوعية البيئة وفي السعي إلى تحقيق تنمية مستدامة في غالبية البلدان العربية متجذر في الاخفاقات السياسية والمؤسسية المقرونة بانعدام الوعي الجماهيري وضعف القاعدة المعرفية.
إن الحاجة إلى بناء المعرفة وتبادلها والتصرف وفق مضامينها هي أولوية رئيسية لجميع البلدان. وتتخلف البلدان العربية، كمجموعة، عن مناطق العالم الأخرى في بناء مجتمع معرفي. كذلك، في مجالات التعليم والتدريب، والأبحاث العلمية، والابتكار التكنولوجي، والأعمال التي توجهها المعرفة، تتخلف المنطقة عن بلدان ذات مستويات مماثلة من التنمية. وإذ تمضي مناطق أخرى قدماً، على البلدان العربية أن تخلق، وفق البنك الدولي، أكثر من 80 مليون وظيفة خلال الخمس عشرة سنة المقبلة لمجاراة النمو السكاني، فضلاً عن التصدي للبطالة المزمنة. وعلى المنطقة أن تقوي قدرتها العلمية والتكنولوجية وتعزز الامكانات المعرفية والخلاقة لسكانها، للمنافسة بفاعلية في الاقتصاد العالمي وتجنب الاضطرابات. ولمجتمع الأعمال هنا دور مهم يؤديه كجـزء رئيسي من مسئوليته الاجتماعية.
أخيراً، تواجه الاقتصادات العربية عدداً من التحديات وخياراً بين مستقبلين. فمستقبل الاقتصاد البني يعد بنمو قصير الأجل في الناتج المحلي الاجمالي، مع الاستمرار في تقليص قيمة «أسهم» رأس المال الاجتماعي والبيئي. أما مستقبل الاقتصاد الأخضر فيوفر إمكانية حفز التنمية الاقتصادية مع ضمان تحسين الأوضاع الاجتماعية والبيئية. ويشير تقرير «أفـد» إلى الحجج المتعلقـة بالأسباب التي توجب على الحكومات العربية الاستثمار في مستقبل اقتصاد أخضر. وإذا تساوت الأمور، فإن مستقبل اقتصاد أخضر يوفر الظروف لاستقرار اجتماعي واستدامة بيئية وازدهار اقتصادي
العدد 3374 - الجمعة 02 ديسمبر 2011م الموافق 07 محرم 1433هـ