من الطبيعي بمكان وإعمالا لضمانة حياد التحقيق، ألا يكون القائم على التحقيق طرفا من أطراف القضية الجنائية وإنما حكما بين أطرافها، وحيث ان طرفي أية قضية جنائية هما الاتهام والدفاع، فيتعين مع ذلك الأمر ألا يكون المحقق أحد هذين الطرفين، وذلك تماشيا مع مبدأ الفصل بين سلطة التحقيق والاتهام.
وتلك المسألة ضرورية بغرض التوفيق بين ضمان عقاب عادل وسليم للجرائم وبين المحافظة على مصالح وشخصيات وحريات المتهمين.
وفي ذلك الإطار، اتجهت بعض التشريعات لإعمال مبدأ حياد التحقيق، إلى الفصل بين سلطة التحقيق والاتهام، فجعلت سلطة التحقيق بيد قاض يسمى قاضي التحقيق بينما جعلت سلطة الاتهام بيد النيابة العامة، وعلى رأس تلك التشريعات القانون الفرنسي والقانون الإيطالي، أما القانون الألماني فقد عهد بإجراءات التحقيق الماسة بالحريات إلى قاضي التحقيق، في حين منح النيابة العامة الحق في أن تطلب من هذا القاضي اتخاذ إجراءات التحقيق العادية كسماع الشهود مثلا.
أما التشريعات العربية، فقد اتخذ المشرع المصري في قانون الإجراءات المصرية مسلك المشرع الفرنسي نفسه في إعمال مبدأ الفصل بين سلطة التحقيق وسلطة الاتهام، إلا أنه غيَّر مسلكه بصدور القانون رقم 353 لسنة 1952 الذي أعطى النيابة العامة سلطة التحقيق كقاعدة عامة إلى جانب سلطتها في الاتهام في جميع الجرائم، ولم يجعل لقاضي التحقيق وجوداً إلا بناء على طلب ندبه من النيابة العامة أو المتهم أو المدعي بالحقوق المدنية.
وبالرجوع لمقولة أحد جهابذة القانون الجنائي وهو أحمد فتحي سرور نجد أنه يقول «أيا كان الأمر، فإن إيجاد قاضي التحقيق بمعنى الكلمة يعتبر لاشك أكثر ضمانا لحقوق وحريات الأفراد». في كتابه «الحماية الدستورية للحقوق والحريات»، ص 666. وقد سار المشرع البحريني بقانون الإجراءات الجنائية مسلك المشرع المصري نفسه، ويا حبذا لو سار على نهج المشرع الفرنسي في إعمال مبدأ الفصل بين سلطة التحقيق والاتهام لصون ضمانة حياد التحقيق وذلك بالتوسيع من صلاحيات قاضي التحقيق، حيث نصت المادة 167 على الآتي: «إذا رأت النيابة العامة في الجنايات أو الجنح أن تحقيق الدعوى بمعرفة قاضي التحقيق أكثر ملاءمة بالنظر إلى ظروفها الخاصة جاز لها في أية حالة كان عليها التحقيق أن تطلب إلى رئيس المحكمة الكبرى المدنية ندب أحد قضاتها لمباشرة هذا التحقيق ولوزير العدل أن يطلب من رئيس محكمة الاستئناف العليا المدنية ندب أحد قضاتها لتحقيق جريمة معينة أو جرائم من نوع معين».
وأخيراً، أرى أن مسألة الأخذ بمبدأ الفصل بين سلطة التحقيق والاتهام ستوصلنا لعدة نتائج يقتضي تواجدها الواقع العملي من بينها الآتي بيانه:
- كفالة الحياد والتي تتطلب الفصل بين وظائف الاتهام والتحقيق والمحاكمة، بمعنى أن يعهد بكل وظيفة من تلك الوظائف لجهة مستقلة إعمالا للمبدأ سالف الذكر، وخصوصا أن الاستقلالية بطبيعة الحال ستحقق قدرا كبيرا من الرقابة وكشف الأخطاء عبر المراحل المتتالية، الأمر الذي يكون في محصلته النهائية محاولة مجدية لتدارك العيوب والقصور وابتعادا عن شبهة الاتهام المتسرع.
- احترام حريات وحقوق وضمانات المتهم في مرحلتي الاتهام والتحقيق الابتدائي، حيث ان تلك المرحلتين هما الأقرب زمنيا لوقوع الفعل الإجرامي، وبالتالي هما الأقرب للحقيقة، وخصوصاً أن مرحلة التحقيق الابتدائي تقوم على تقييم الأدلة وما يترتب على ذلك من إحالتها إلى القضاء أو عدم وصولها، فيتعين أن تكون هناك ضمانات من بينها إعمال ذلك المبدأ لسلامة الإجراءات كأقل تقدير.
- والأهم من ذلك وتلك فإن الأخذ بالمبدأ السالف ذكره من شأنه أن يلغي جمع النيابة العامة بين سلطتي الاتهام والتحقيق، والتي تجعل النيابة العامة خصما وحكما في آن واحد، ومن الطبيعي بمكان كما يكشف عنه الواقع العملي ألا يكون الخصم محققا محايدا إذا ما جمع السلطتين، فقد نجده يميل لإثبات الاتهام وإلى عدم الاهتمام بالتحقيق دفاعا عن المتهم، مما تتأذى معه العدالة... وما يؤيد ذلك الأمر هو قول رسولنا الكريم (ص) «علمنا ألا تقبل شهادة الخصوم، فما بالنا بحكمهم»
إقرأ أيضا لـ "نفيسة دعبل"العدد 3369 - الأحد 27 نوفمبر 2011م الموافق 02 محرم 1433هـ
شكرا لك سيدتي أ. نفيسة دعبل
أناشد أعضاء مجلس النواب الكرام أخذ هذه المقالة بإعتبارها أرضية وعمل مشروع قانون يفصل بين سلطتي التحقيق والإتهام وذلك من أجل ضمان صون حقوق المتهمين. مع تعزيز إستقلال السلطة القضائية إستقلالا تاما عن جميع السلطات.