لقد تابعت من بعيد لجنة تقصي الحقائق منذ نشأتها وحتى إطلاق تقريرها كما استمعت إلى كلمة البروفسور بسيوني وكلمة الملك حمد بن عيسي آل خليفة وقمت بقراءة التقرير وتعليقات صحافيين وسياسيين ورجال دين منذ إطلاقه وحتى الآن وبالنظر لحجم التقرير وكثرة ما قيل وصرح به البروفسور بسيوني حتى قبل صدور التقرير وبعده وكثرة ردود الفعل وتنوعها ومن واقع خبرتي على مدة ربع قرن في متابعة قضايا حقوق الإنسان في الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية، فإنني أود التعليق ببضع ملاحظات قد يكون بعضها تكراراً وقد يضيف بعضها جديداً، ولكن دافعي إليها هو المساعدة على التفهم الموضوعي للتقرير ونظرته لما حدث في البحرين ولما يمكن أن يحدث وتتمثل تلك الملاحظات في النقاط التالية:
الأولى: إن البروفسور محمود شريف بسيوني ولجنته هم من الخبراء القانونيين المتخصصين في كثير من جوانب القانون الدولي لحقوق الإنسان ولهم خبرة طويلة ومكانة دولية ولهم حيادية وموضوعية ونجحوا في أداء مهمتهم الصعبة باقتدار.
الثانية: إن تقرير اللجنة مهما كان موضوعياً وحيادياً فلن يرضي كل الناس فالحقيقة حمّالة أوجه وسلوكيات البشر تعاني من ضيق أفق كل إنسان ونظرته لما يخصه وتجاهله لما يخص الآخرين وحقاً قيل إن رضاء الناس جميعاً غاية لا تدرك.
الثالثة: إنه يرد على خاطري دائماً مقولة ذكرها الإمام الخميني الزعيم الإيراني المشهور عندما قبل قرار مجلس الأمن لوقف الحرب العراقية الإيرانية فقال إنه مثل تجرُّع السم ومقولة منسوبة حديثاً لوزير العدل والشئون الإسلامية البحريني الشيخ خالد بن علي آل خليفة فقال إن التقرير مثل الدواء المر، والمقولتان ليستا بعيدتين عن بعضهما في المضمون، فهما مستمدتان من أصل واحد ذي ثلاث شعب أولاها وجود حالة مرضية وثانيها وجود رغبة في الشفاء وثالثها وجود وسيلة للعلاج وإذا توافرت العناصر الثلاثة فإنه يصبح من التقصير الشديد الذي يرقى إلى حد الجريمة عدم تناول الدواء مهما كان مرّاًَ ومهما كانت به بعض السمّيات القليلة التي هي أصلاً في إطار الدواء فهذا جزء من التحصين لتحقيق المناعة لجسم الإنسان وأيضاً للمجتمعات، ولهذا فإن من لا يعاني ولا يواجه الصعوبات والشدائد لن يصقل ولن يستطيع تحقيق التقدم الإنساني كفرد أو كمجتمع.
الرابعة: إن قراءة التقرير المنسوب إلى بسيوني - مجازاً - لأنه تقرير لجنة ترأسها بسيوني وهذه اللجنة رفيعة المستوى من نخبة صغيرة معروفة ومشهورة، ضمت أيضاً عشرات الأفراد من ذوي الخبرة بقيادة هذه النخبة الذين هم أعضاء اللجنة وكثرة من الخبراء المحنكين في قضايا حقوق الإنسان هم مجهولون في معظمهم للرأي العام ولكنهم معروفون كخبراء وفنيين ومهنيين في مجالات تخصصهم، وترأس البروفسور بسيوني كل هذا الحشد من الناس الذي عاشوا في البحرين في عمل مستمر وإنكار للذات واطلعوا على الكثير من الدراسات والتقارير والمستندات والشهادات والإفادات بقدر ما استطاعوا وعاينوا الكثير من المواقع وحللوا الكثير من الحوادث ليفرزوا الغث من السمين ويستخلصوا الصدق من الكذب ويتحرّوا الحقيقة وسط ركام من المبالغات والتشويهات واتبعوا منهجاً علمياً موضوعياً معروفاً في مثل هذه الحالات الخاصة بالتقارير الحقوقية المعتمدة من الأمم المتحدة وممارساتها. ولهذا يستحقون الإشادة.
الخامسة: إنه رغم كل الجهد المذكور فليس معنى ذلك أن تقريرهم كامل وخالٍ من النقائص والعيوب والأخطاء أو بل به الكثير من الأخطاء اللغوية والطباعة باللغة العربية وأيضاً به بعض الاستدلالات والخلاصات غير الدقيقة أو غير الصحيحة، ولكنني دائماً أستشهد بقول السيد المسيح عليه السلام «من كان منكم بلا خطيئة فليرمِها بحجر». فلم يخلق بعد الإنسان الكامل الموضوعي بالتمام أو الصائب دائماً الذي لا يرتكب الخطأ ولعل الحكمة الإلهية تكمن في ذلك في قول الرسول محمد بن عبد الله نبي الإسلام «إن خير الخطاءين التوابون»، وفيما ورد من أحاديث قدسية ونبوية إن الله يبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار، وبالنهار ليتوب مسيء الليل، وقول الله تعالى إنه يغفر الذنوب جميعاً وإن الله جعل ملائكة ينادون بالليل والنهار هل من مستغفر يغفر الله له، المعنى الرئيسي الذي نسعى إليه هنا هو أنه لا شخص - مهما كان - غير معرض للخطأ، ولكن الرجوع إلى الحق والحقيقة ونقد الذات هو الدواء المر الذي على كل واحد منا أن يتجرعه ليتعافى وليتطور وليتقدم ولكن من يرى في نفسه فرداً أو جماعة أو مجتمعاً أنه لا يخطئ وأن الآخرين هم دائماً على خطأ فهذا هو المريض حقاً الذي لا يرغب في الشفاء ولا في التقدم. وإن الاعتراف بالحقيقة ونقد الذات هو الوسيلة المثلى للتقدم والرقي للأفراد والمجتمعات وحقاً القول الإنجليزي المشهور إن الرضى الذاتي ليس هو الدين. الدين Self righteousness is not religion أن من ينظر إلى نفسه فرداً أو مجتمعاً أنه فوق الحقيقة والحق ولا يعمل إلا الصواب فهو مريض بداء عضال.
السادسة: إن تقرير تقصي الحقائق المعروف مجازاً بتقرير بسيوني فيه من الحقائق والمعلومات والبيانات ما يجعل كل فرد وكل مسئول وكل جمعية على صواب وأيضاً على خطأ ومن ثم فلا ينبغي لطرف أن يجتزئ الحقائق ويركز على نقطة دون أخرى، وبل عليه أن يقرأ التقرير قراءة كاملة وواعية وإن على كل طرف من أطراف العملية السياسية في البحرين أن يراجع نفسه مراجعة صادقة وأمينة لكي يمكن للمجتمع أن يتغلب على المأزق وعلى الصعاب التي يواجهها ويعود إلى سيرته الأولى مجتمعاً متماسكاً مترابطاً متآخياً بعيداً عن الصراعات الأخوية الدامية والشكوك والهواجس والمبالغات والشائعات والتطرف والحقد والكراهية، ولعل لنا في رسول الله أسوة حسنة عندما تشاجر اثنان من الأنصار من الأوس والخزرج وكادا أن يتشابكا وتعود بينهما الحرب الدموية التقليدية بين القبائل العربية وعلم الرسول بذلك فأسرع إليهما وأوقف الصراع قائلاً أجاهلية وأنا بين ظهرانيكم. إن من يركز على هذه الكلمة أو الجملة أو الخلاصة أو تلك من تقرير بسيوني ليثبت صدق وجهة نظر فريقه وخطأ الآخر أو العكس أو حتى اتهام لجنة بسيوني، كما تسرع البعض عند بدء عملها واتهمها بالانحياز قبل أن تبدأ العمل.
السابعة: في هذا السياق كله لابد أن نحيي صاحب القرار بتشكيل هذه اللجنة والاستماع إلى تقريرها بصدر رحب، ونحيي الجهات الرسمية والشعبية التي بادرت وتقدمت بشكاواها للجنة، أو التي فتحت الملفات أمامها بلا تحفظ، إن المجتمع البحريني من الملك وحتى المواطنين البسطاء الذين ساهموا كل بقدره في إنجاح مهمة اللجنة للوصول إلى الحقيقة أو أقرب نقطة إليها كل يستحق التقدير والإشادة.
الثامنة: إن السؤال: وماذا بعد التقرير؟ فكثير هي تقارير الخبراء والمحققين والهيئات الدولية توضع في الأدراج لدى الدول أو المنظمات الدولية ولعل أكثر تلك التقارير تتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني وما يتعرض له من قمع وظلم وانتهاك لكل القيم والأعراف والمواثيق الدولية، ولكن إسرائيل وحماتها يغضون الطرف رغم تشدقهم بحقوق الإنسان ليلاً ونهاراً.
التاسعة: إن قيادة البحرين منذ اللحظة الأولى بدأت في دراسة التقرير سعياً نحو كيفية وضع التوصيات موضع التنفيذ وهذا دليل على الجدية والصدقية والأمانة والحرص على الوطن والشعب البحريني ولابد من مساعدتها في هذا الصدد ليس بالتحزب والتطرف والتخندق، وإنما بالتجاوب معها، بالتعاون والتسامح ووقف دعوات الطائفية والكراهية وإثارة الأحقاد والأضغان الأمر الذي يعقد الأمور ويثير الذكريات الأليمة لدى هذا الطرف أو ذاك.
العاشرة: إنني كمراقب ومعني بحقوق الإنسان أجد في شجاعة الملك أمر يستحق الإشادة وفي روح الإخاء بين الشعب البحريني والتسامح أمر جدير بالتقدير والإعجاب وأتمنى أن تعود هذه الروح مرة أخرى ولا يستمع أي فرد لدعاوى التشكيك أو التطرف ولا يتصور أحد أنه دائماً على صواب وأن الآخر دائماً على خطأ، أو أن البحرين مُلكاً له دون سواه، فالبحرين للجميع وليست لشخص أو طائفة أو جماعة، إن هذه مسئولية مشتركة للجميع والوطن للجميع، وعلى الجميع التعاون من أجل إعادة اللحمة وفي مقدمة ذلك رجال الدين الذين يستمع إليهم الكثيرون وليتأملوا بإمعان في قول الله سبحانه وتعالى للنبي الكريم «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك»، وليتأملوا قوله تعالى «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (فصلت: 34). إن نشر كلمة المحبة هي الطريق الأكيد لتحقيق المعجزات وللغلب على الأحقاد ولإزالة البغضاء بين الإفراد والشعوب والعفو والصفح هو دعوة قرآنية واضحة وهي طريق الغفران تأمل قوله تعالى «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (النور: 22)
وختاماً نقول إن البحرين تعيش مرحلة تاريخية بالغة الحساسية ينبغي أن يعمل الجميع من أجل التقدم والصفح والوئام. إن الكلمة قد تقتل وقد تحيي الآخر ولذلك قال القرآن «والفتنة أشد من القتل»، وقال النبي الكريم «وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم».
تلك بعض تأملات بشأن تقرير لجنة تقصي الحقائق وهو تقرير رائع ولكن به بعض الهنات وربما أيضاً بعض المواءمات السياسية وهذا دليل حكمة من أعدّوا هذا التقرير فالحياة والسياسة والقانون والحقوق ليس بها أبيض وأسود دائماً، وإنما هناك مناطق رمادية لابد من مراعاتها، وهناك حكمة سياسية وبصيرة ولابد من العمل من أجلها وهناك مبادئ لابد من مراعاتها وهناك مكونات لكل مجتمع لابد من أخذها في الحسبان
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3369 - الأحد 27 نوفمبر 2011م الموافق 02 محرم 1433هـ
ابو سيد رضــــــــــا
كل النقاط العشر جميله فقط اذا كان الموضوع متعلق بفتره زمنيه محدده و لكن نحن نعيش ازمة التهميش و الفساد المالي و الاداري و قضايا التعذيب منذ قانون امن الدوله و حل مجلس النواب في سنة 1975 اي الكل كان مضطهد و يترقب الاعتقال على اي كلمة و هو ما جاء به التقرير بان اكثر القضايا تتعلق بحريه التعبير و حقوق الناس لا يمكن المستومه عليها و خصوصا اذا اريق دم في مقابلها انا بامكاني التسامح عن اي شي صدر ضدي و لكن حق الشهداء لا يمكن التنازل عن دمائهم مهما جرى من مصاعب