يذهب المراقبون السياسيون إلى توصيف العلاقات الأميركية - السورية الراهنة بلعبة صراع الإرادات، وفي هذا التوصيف، يحتفظ كل طرف من أطراف اللعبة، بعناصر القوة المتوافرة لديه، كما يحاول الاستفادة، من عناصر الضعف عند الطرف الآخر وتكون المحصلة، محسوبة بالنقاط، لأنه في هذا النوع من العلاقات الدولية، لا تحصل نتائج حاسمة تتقرر فيها وجوه الغلبة بشكل صريح. وإذا دققنا في هذا التوصيف، نجد ان النتائج مرهونة بجملة من التطورات تؤثر على ميزان القوى المتحرك في منطقة لا تبدو مريحة للأهداف الاميركية بل تتوافر على صعوبات كثيرة يدركها اللاعبون الاقليميون وتقدم لهم فرصة كبيرة على المناورة الدبلوماسية الواسعة، الأمر الذي تستفيد منه الإدارة السورية إلى أبعد الحدود.
بعدما حققت الولايات المتحدة انتصارها السريع على النظام العراقي السابق، وجهت مؤسسات الإدارة الاميركية تحذيرات علنية إلى سورية وقام وزير الخارجية كولن باول بزيارة دمشق وفي اجندته مطالب صريحة كانت موضع حوار بين الطرفين. وأعطيت سورية فرصة زمنية، للتجاوب مع هذه المطالب، وتحت مراقبة دبلوماسية شديدة، مترافقة مع تهديد تمرير قانون العقوبات في الكونغرس. ثم عادت الإدارة وتراجعت، وطالبات لجان الكونغرس بتأجيل «قانون محاسبة سورية» إلى وقت آخر طالما ان دمشق؛ توجه رسائل صريحة بالرغبة، في متابعة الحوار مع الاميركيين، للوصول إلى نتائج ايجابية تريح حبال التوتر المشدودة بين البلدين. استطاعت سورية ان تستفيد من كل اوراق القوة التي بحوزتها، وتعاملت مع التهديدات الاميركية بالدعوة إلى الحوار، والتعاون الايجابي، وتخلصت من كل المشكلات التي نشأت عن الهزيمة العسكرية السريعة للنظام العراقي السابق، وكانت قادرة على استيعاب نتائج هذه الصدمة، والتخلص من سلبياتها واستعادة مبادرة التحرك الدبلوماسي سواء مع الإدارة الاميركية مباشرة أو مع رسائل الوسطاء العرب ومن ابرزهم مصر والسعودية، والامارات العربية المتحدة. وعلى رغم وجود قوى نافذة، في الإدارة الاميركية معادية بشكل صريح تمكنت الدبلوماسية السورية، من تجفيف مستنقعات العداوة، والعبور فوقها إلى بر الأمان في الحوار، من أجل علاقات تسمح بالتعاون الهادئ بين دولة عظمى وقوة اقليمية شديدة الحضور والتأثير في المنطقة العربية. وعليه تكون سورية حققت فوزا بالنقاط على خصومها داخل الإدارة الاميركية، ولعل طلب هده الادارة تأجيل النظر في «قانون محاسبة سورية» داخل الكونغرس الاميركي، دليل صريح على الفوز بالنقاط التي احرزتها دبلوماسية دمشق. كان على طاولة التفاوض الاميركية - السورية اربع حلقات اساسية هي الآتية:
- الوضع في العراق بعد انتصار قوات التحالف الاميركية وخضوع العراق إلى شكل من اشكال الاحتلال. وبداية مرحلة ما بعد حكم صدام، على صعيد بناء السلطة المحلية العراقية، وإعادة الإعمار.
- الوضع داخل فلسطين، ومتابعة مستقبل الانتفاضة و«خطة الطريق»، والصعوبات التي تواجهها.
- الوضع في لبنان، ومستقبل المقاومة والوجود السوري فيه بعد مؤتمر الطائف.
- مسألة التسوية الشاملة في الصراع العربي - الصهيوني، أو بشكل دقيق، مصير المفاوضات على المسارين السوري واللبناني.
إن مراقبة سريعة لعناوين جدول المفاوضات، تكشف عن سلامة التوصيف في اعتباره صراع إدارات بين الطرفين، لأن إلى سورية مراكز قوة ومصالح وطنية وقومية في الحلقات الأربع المذكورة.
وهذه الحلقات تمثل بيت القصيد في الاهداف الاستراتيجية الراهنة، في المنطقة يضاف اليها، مسألة (محاربة الإرهاب) وسورية كانت متعاونة في هذا الملف مع الاميركيين، منذ، ضربة 11سبتمبر/ايلول 2002.
بالنسبة إلى الحلقة الاولى، المتعلقة بالاوضاع في العراق، اعترفت سورية بهزيمة النظام العراقي، وهي كانت على خلاف تاريخي معه، واستطاعت سحب كل العلاقات السلبية التي حرض غلاة الإدارة الاميركية عليها، وأعلنت استعدادها لاعطاء اميركا، فرصة زمنية كافية لترتيب شئون العراق الداخلية، مع الاستعداد للتعاون مع السلطات العراقية الجديدة خصوصا في المجال الاقتصادي على رغم ا إلى سورية مصادر قوة كثيرة في العراق، فإنها قبلت تأجيل الاستفادة منها، حتى لا تتهم بعرقلة الجهود الاميركية في هذا البلد، ومعنى ذلك باللغة الاستراتيجية أن سورية جمدت إلى حين حركتها في العراق وتركت تقدير الامر إلى الإدارة الاميركية التي تواجه صعوبات كثيرة في هذا البلد. ولعل في تأييد دمشق إلى جهود الامم المتحدة في العراق، كما ظهر من نتائج لقاء الرئيس بشار الأسد مع ممثل الأمم المتحدة في العراق سيرجيو دوميللو، واستعداد دمشق لمساعدة الأمم المتحدة، وموقفها اللين من تشكيل «مجلس الحكم» في العراق، وإعادة العلاقات التجارية إلى سابق عهدها، مؤشرات تفصح عن قوة دمشق في العراق وعن استعدادها للتعاون إذا وجد الاميركيون ذلك مناسبا حتى لا يفسر هذا الموقف، عكس المراد منه، خصوصا وان الحساسية الاميركية بخصوص الاوضاع في العراق بالغة التوتر.
في الحلقة الثانية المتعلقة بالوضع في فلسطين المحتلة ومستقبل «خطة الطريق»، أعلنت دمشق انها تقبل بما تقبل به السلطة الفلسطينية، ورفعت يدها عن مسئولية العقبات التي تواجه هذه الخطة، خصوصا من قبل حكومة شارون، وباركت دمشق كل الخطوات الفلسطينية الداخلية، واستطاعت الحصول على موافقة المنظمات الفلسطينية المتعاونة معها، على المساهمة في تمرير الهدنة الراهنة المعلنة من قبل المنظمات الفلسطينية الإسلامية، وكررت دمشق موقفها القائم على تأييد حقوق الشعب الفلسطيني وقرارات سلطاته الوطنية الشعبية والرسمية.
في الحلقة الثالثة المتمثلة بالوضع في لبنان ومستقبل المقاومة، دافعت دمشق بقوة عن الوضع اللبناني، واعتبرت المقاومة جزءا من حقوق لبنان وقوته الوطنية، وبادرت إلى التمسك بهذه القوة وهذه الحقوق واعتبرتها غير قابلة للمساومة، لاعتبارها جزءا اساسيا من الأمن القومي إلى سورية ولبنان، وهذا كما اضطرت اميركا إلى القبول به على مضض، نتيجة لموقف دمشق غير القابل للتفاوض بهذا الشأن. وكانت الاوضاع العامة في لبنان، تؤيد وتدعم هذا التوجه، الأمر الذي سهل على الدبلوماسية السورية مهمة مواجهة الاميركيين بهذه الحقائق غير القابلة للتفاوض. بالنسبة إلى التسوية الشاملة استعادت سورية ادبياتها المعروفة، بقبول السلام باعتباره معطى استراتيجيا، وفق مقررات «مؤتمر مدريد» والشرعية الدولية، ونفت ان تكون طالبت بخطة طريق إلى لبنان وسورية، اي انها ابقت الاوضاع على ما كانت عليه، قبل الحرب على العراق.
يتضح من هذه المواقف ان الدبلوماسية السورية استطاعت إدارة الحوار مع اميركا، على قاعدة الواقعية السياسية، التي تملك القوة وأوراق التفاوض، فأعطت هنا واخذت هناك، لكنها في هذا العطاء والاخذ، حافظت على ثوابت صريحة لم تفرط فيها بعناصر القوة، وإن كانت استفادت منها بعقلانية، ومارستها بحركة مترابطة ولا تسمح بالنفاذ، من واحدة، للعرقلة في اخرى. وهذا النوع من الدبلوماسية الواقعية والعقلانية هو الذي حمل المراقبين السياسيين للقول: ان العلاقة تمر بمرحلة صراع الارادات بين الطرفين. وسورية في هذه العلاقة تعرف ما تريد وتعرف كيف تحقق هذا الإدارة وتصل فيها الى المراد. وليس هذا مديحا للسياسة السورية، بقدر ما هو توصيف موضوعي، للمشهد السياسي، وقراءة متأنية لمجرياته في حلقاته الاساسية، إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن سورية مؤهلة لزيادة غلة نقاطها في صراع الإرادات
العدد 336 - الخميس 07 أغسطس 2003م الموافق 09 جمادى الآخرة 1424هـ