أيها الفاتحون المحالون على التقاعد. أيها الحدَّادون الذين مجُلت أيديهم لفرط الطرْق. أيها النجَّارون الذين يمتهنون تشكيل الإقامات. أيها البنّاؤون الذين بلا مأوى. أيها الدهَّانون الذين لا يجدون غير لون الرماد لتخضيب حيطان لا تجرؤ على الصد. أيها الهاربون إلى أمانهم، والمهاجرون إلى وهمهم. أيها الساجدون للخُلع والامتيازات والرصيد المصرفي. أيها الفلاحون الموعودون بمصادرة حيزهم مع كل وفرة حصاد. أيها المناضلون العاملون في فنادق النجمة المنطفئة، وفي مداخل القواعد العسكرية. أيها المكبوتون الذين لا طاقة لهم حتى على الزفير. أيها الفلاسفة السابقون، وتجّار البيانات والبوتيكات الحاليون. أيها المطربون بحناجركم التي منها اكتَشف النهيق طبقاته الصوتية. أيها الوشاة حتى على أمهاتكم وأثاث إقامتكم الشحيح. أيها العابرون إلى حتفهم أو وهمهم، لا فرق. أيتها الخرائط المعدة لفتن أكثر من قرن مقبل. أيها المشرِّعون الضالعون في الغواية. أيها المفتشون عن النوايا. أيها الحطابون لأعصاب أهلكم وأرحامكم. أيها الرياضيون المفتقدون للياقة الروح. أيها الساهرون على العبث. أيها الوجود البشري: لا شيء يدل على وجودك!
كل تلك القائمة وغيرها في لحظات مفاضلة ومأزق وخنق ومصادرة واحتواء - إلا النادر منها - تنحاز إلى الخاص وتضرب ما عداها عرض الحائط. تكشف عن الاحتقان والإفلاس والعطب الوجودي الذي يعيشه العالم اليوم، وخصوصاً عالمنا المبتلى بامتياز. مفاضلة الخلاص على حساب وجود مستتب وصالح للتنفس الآدمي. كأنه عصر/ مرحلة الأنا كي تضمن عبورها أمام الأسلاك الشائكة من الشروط والإهانات والتهديدات حتى بتقليص حصتها في الأنفاس. زمن ومرحلة فيها من القلق والرعب ما يدع الأخلاق في آخر طابور همِّها وأولوياتها؛ هذا إن كانت الأخلاق تمثل لها همّاً وأولوية أساساً.
يمكن للخيال البشري أن يجنح حد الإعجاز والإدهاش في صوره الفارقة والصادمة، ولكن حقيقة هذا العصر بممارساته وانحسار أخلاقياته لا يحتاج إلى خيال كي يقف على حجم جنوحه وتجاوزه. هو ما بعد الخيال بأزمنة تسبقنا بمراحل لن يتاح لنا اللحاق بالمتخلف منها عدا الممعن في تقدمه؛ لأن التجاوز سابق والضابط لأخلاقه مترو ومتمهل وفاحص.
الخيال البشري بالذهاب خلاف الفطرة في التعامل والممارسة يمعن في ذوبانه وتلاشيه في الحيز من التوجه والأهداف والمرامي.
لا مكان له في تحكُّم الآلة والذين يسوسونها، ويأخذون بها إلى اكتشاف المتواري والمغفل من مواهبها. مواهب الإقلاق والتوتير والشحن ودفع الأعصاب البشرية دفعاً إلى الاستعداد لقيامتها في أية لحظة. تقرِّر فيها تلك الآلة إرسال الممانعين لها والخارجين على شريعتها وشروطها وأدبياتها وبروتكولاتها إلى قبور من دون شواهد، ومن دون فاتحات، ومن دون ورود، فقط سيظلون مخفورين بالسر والوحشة ومكنة إعلامية تطاردهم إلى ما بعد موتهم بقرون.
حتى متاهة كافكا، وكبرياء المتنبي، وأعراس لوركا، وقبلهم المطر الرحيم المفاجئ بدوياً في ضنك يبسه وجفافه لن يساهم التحايل عليه في هكذا تراجيديا متطاولة وممعنة في امتدادها وإعادة ترتيب حواسها ومكرها وكمائنها، قفزاً من حال الانشداد إلى حال الذهاب للحدود القصوى من الخيار، والوقوف على ما يعزز قدرته على رفع السبّابة بقدر إمكاناته في رفع مصحف على الرؤوس ساعة هزيمة واندحار وغدر وختل وتفكك.
لا تملك إلا أن تصبِّح بالحزن، وأن تأخذ الكارثة في الأحضان، وأن ترفع شارة النصر في حضرة مجزرة، وأن تتغنى في انهمار الدم، وأن تبكي حين تطل الأعراس برأسها أو حتى بقدمها! وأن تتآمر على طلوع الشمس من المشرق، وأن ترى في الانعزال حشراً من الناس، والحشر سجناً انفرادياً، والعطاء منعاً، والمنع «شرهات» تنهمر كأنها مطر في فصل ووقت مسرف، والكبرياء انبطاحاً، والانبطاح ذروة الممانعة، والكراهية حقلاً من السوسن والأوركيد، والشرط خياراً، والخيار ذروة المنفى!
أيتها الأوطان المحاطة بهذا القدر كالقطران و»الزفت» وأكثر من ليل احتياط، كيف سيتسنى لك أن تري موضع قدمك، والأقدام التي لا ترى الطريق ولو بالعدسات الملونة والمقعّرة، ولكنها كعين صقر حين تكون الطريق معبَّدة بالأجساد والكرامات ومحاولة التمييز بين بهيمة في حظيرة، ومخلوق من المفترض أنه لسان الله على الأرض وحجَّته.
يبقى خيار لا ثاني له، بحسب ألبير كامي: «ليس هنا سوى الموت يعطي معنى للحياة»
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3358 - الأربعاء 16 نوفمبر 2011م الموافق 20 ذي الحجة 1432هـ
جميل دائما
مقال اكثر من رائع وفقك الله لكل جميل/اخوك الدكتور