اعتمدت الحكومات في مختلف أنحاء العالم على عمليات الاقتراض لسد العجز في ميزانياتها، لأسباب ودواعي مختلفة أدت إلى ارتفاع المصروفات على الإيرادات. واستفادت الحكومات من ثقافة الاستقراض أو الاستدانة السائدة في مختلف أنحاء العالم، ووجود أموال طائلة أصحابها يبحثون عن أية قناة استثمارية يعتقدون أنها آمنة، لتوظيفها فيها.
ارتكز رواج ثقافة اقتراض الدول على «ترويج الوهم» كمسلمات علمية أو حقيقية، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى توريط الحكومات المقترضة، والمستثمرين المقرضين.
ان «ترويج الوهم» هي خطة مبرمجة توهم الناس بالاستثمار ألآمن والأرباح والثراء، وبالتالي يندفعون بكل طاقاتهم وما يمتلكون للاستثمار في هذا الوهم. وكذلك إيهام الحكومات أن ديونها في المستويات الآمنة، لتتمادى في الاقتراض.
لقد تنافست وكالات ومؤسسات التصنيف الائتمانية بإصدار تقارير وتصنيفات للديون، وتنتشر في مختلف وسائل الأعلام، كما تقوم وسائل الأعلام باستضافة الخبراء والمحللين الذين دائماً ما يذكرون مقاييس اقتصادية محددة، مما ساعد على «ترويج الوهم». ونجح مروجو الوهم في خلق اعتقاد بأن الاستثمار في السندات الحكومية للدول آمنة وعوائدها مضمونة، وأن الحكومات ستستمر إلى الأبد في دفع العوائد لهم.
لقد انكشف وهم «السندات الحكومية الآمنة» مع عدم قدرة اليونان على تسديد الديون السيادية، وتفاقم أزمة الديون السيادية الأوروبية، والديون السيادية للولايات المتحدة الأميركية. ولا يمكن المراهنة على وكالات التصنيف الائتمانية العالمية، فتاريخها لا يثبت جدارتها، فمثلاُ أنها منحت بنك ليمان براذر الأميركي الذي كان شرارة الأزمة المالية العالمية، أعلى تصنيف ائتماني قبل إعلان إفلاسه بيومين فقط في منتصف سبتمبر 2008.
لقد أظهر اتفاق الدول الأوروبية مع البنوك، بشطب 50 في المئة من سندات الديون اليونانية، حقيقة واحدة وهي: أن الديون السيادية الحكومية غير آمنة كما يروج له أصحاب الوهم، لأن الحكومات لا تستطيع أن تدفع فوائد وديون إلى ملا نهاية، وأن للحكومات حدود معينة في الاقتراض إذ تجاوزتها فقدت قدرتها.
الوهم الآخر، يتعلق بوهم الحكومات بأن ديونها في المستوى الآمن لتستمر في الاقتراض، وتم ترويج هذا الوهم عبر شخصيات لها صفة خبراء ومحللين وأكاديميين، ووضع مقياس «نسبة الدين العام للناتج المحلي» لتحديد أن المستوى آمن أو غير آمن. ولم يناقش أو يختبر مقياس «نسبة الدين العام للناتج المحلي» ومدى دقته، ولا يعرف كيف روج في مختلف أنحاء العالم ليصبح مقياس معتمد، يضع له اعتبار فوق كل المقاييس.
مقياس «نسبة الدين العام للناتج المحلي» لا يعطي صورة دقيقة أو صحيحة عن درجة الآمان ومدى قدرة الدولة على الدفع، فديون اليابان السيادية تفوق ناتجها المحلي 200 في المئة ولم تفلس، بينما اليونان بمجرد أن بلغت ديونها السيادية 100 في المئة من الناتج المحلية، أصبحت على حالة الإفلاس لو لا مساعدة الدول الأوروبية.
دولة لبنان تبلغ ديونها السيادية 150 في المئة من ناتجها المحلي، وتعرضت في عام 2006 إلى حرب أو هجوم إسرائيلي، ولم تحدث لها أزمة ديون سيادية، بينما اليونان التي تنعم بالآمن حدثت فيها أزمة ديون سيادية.
فمقياس «نسبة الدين العام للناتج المحلي» يظلل الحكومات ويوقعها في مأزق، فهناك عوامل ومتغيرات أكثر تأثيراً، منها سعر الفائدة، فمثلاُ الدولة (أ) ناتجها المحلي 200 مليار دولار، يمكنها أن تتعامل مع دين يبلغ 300 في المئة من ناتجها المحلي إذا كانت أسعار الفائدة صفرية مستقرة عند 0.01 في المئة، بينما لا يمكنها أن تتعامل مع دين يبلغ 70 في المئة الناتج المحلي الإجمالي إذا كانت أسعار الفائدة فوق 4 في المئة، إذ أن هذه الدولة ستدفع فوائد على ديونها تبلغ 600 مليون دولار، عندما تكون أسعار الفائدة صفرية عند 0.01 في المئة، بينما ستدفع فوائد تبلغ 11 ضعف (نحو 7 مليارات دولار) عندما تكون أسعار الفائدة 4 في المئة، وتكون النتيجة النهائية أن الحكومات تظل طريقها عندما تنخفض أسعار الفائدة لمستويات صفرية، وتعتقد أنها في المستويات الآمنة، وتتفاجأ بالمشكلة عندما تبدأ أسعار الفائدة بالارتفاع.
كما أن الفترة الزمنية للقروض تعلب دوراً كبيراً في مسألة الدين، فمثلاُ الدولة (ب) تستطيع التعامل مع ديون تبلغ 200 في المئة من ناتجها المحلي، إذا كانت فترات السندات تبلغ 30 سنة، بينما لا يمكنها أن تتعامل مع ديون تبلغ 100 في المئة من ناتجها المحلي إذا كانت فترات سداد ديونها في أقل من 10 سنوات.
والأهم من كل ذلك، عامل «الثقة»، فالحكومات يمكنها أن تقترض ما تشاء وبأي نسبة وتستمر في اللعبة، ما دام هناك من يثق بها، ويضخ الأموال من دون توقف. لكنه عامل خطير. ولهذا يتوجب الحذر من التظليل الذي يروج له، والذي يستند على مقياس «نسبة الدين من الناتج المحلي الإجمالي» دون الأخذ بالاعتبار نسبة الفائدة وفترات استحقاق السندات إلى جانب نسبة إيرادات الدولة من الدين العام
إقرأ أيضا لـ "عباس المغني"العدد 3353 - الجمعة 11 نوفمبر 2011م الموافق 15 ذي الحجة 1432هـ