عند قراءة روائع «غابرييل غارسيا ماركيز» تحكمنا الضرورة للتزود بعدد قراءة مغايرة غير اعتيادية، لما لا، وهو يدخلك في متاهاته السردية بتفاصيل ما يفرضه زمانها ومكانها. الصور حسية يجسدها في سياق الحدث التاريخي فتأخذ بعدها الإبداعي وتبرز لوحات جميلة تتميز بالتدوين المنطقي المتسلسل لتفاصيل الحدث وشخوصه.
ثمة حاجة ملحة أخرى لأداة الصبر وملكة الخيال، وممارسة أفعال التفكيك والتحليل والربط بتأنٍّ ونشاط ذهني متّقد مقبل على تحمل تبعات المفاجآت التي يقود إليها «ماركيز»، فأفعل الكتابة عنده لا ريب متشابك، كل الاحتمالات وارد حضورها ذهنياً ومتوقعة بين ثنايا السطور، وخبايا حكاياته المتناسلة عن الحكاية الأم.
«الجنرال في متاهته»نموذج إبداعي لسرديات «ماركيز»، نشرت في 1989 وتتناول شخصية «الجنرال» بسماتها التسلطية الاستبدادية والنرجسية ولحظات اجتيازها ظروف تفاعلت اتسمت بحالات إنسانية يستوجب إدراكها بواقعية كي نتجنب الوقوع في وهم أننا أمام شخصية «أسطورية»لا شبيه لها في الواقع ولا تقارب واستحالة الوصول إليها في الحياة اليومية. هنا يذكر «ماركيز»: «برغم أن شخصية «الدكتاتور» شخصية مجرم وقاتل، بيد أنه يطرح نفسه أحياناً كأب يخاف على شعبه ويحن عليهم ولا يريد إلحاق الأذى بهم، هو إنسان جاء من المجتمع ولم ينزل من المريخ، ما يعني أن شخصيتي «الدكتاتور والرفيق» كـ «سايمون بوليفار» في الرواية، تختلط لدى الإنسان». لاشك وجهة النظر هذه استفزازية مثيرة قد لا تروق للبعض.
يمكن رصد تنقل الراوي برشاقة بين أزمنة شخصية «الجنرال» بأفكار عصره السياسية، وعاداته وطريقته البذيئة في الكلام، وطبيعة مرافقيه ومصيرهم، حتى إنه تأكد من أبيات الشعر التي طالما رددها من الذاكرة، لم تكن سوى أبيات للشاعر الاكوادوري «خوسيه خواكين أولميدو»، فالمؤلف يرى أن هذه الشخصية ليست متفردة في سماتها، إذ طالما عج التاريخ المعاصر بمثلها مع اختلاف المنابات والبيئة الثقافية والتكوينية، فهي تتقاطع بنهاية المطاف في ملامحها بعداً وقرباً. هنا يركز «ماركيز»على اهتمام «الجنرال» لمظهره أمام العامة: «نتف بيده شعر أنفه وأذنه، ولمع أسنانه المنتظمة بمسحوق فحم وضعه على فرشاة حريرية بمقبض فضي، ثم قلم أظفار يديه وقدميه وهذبها، خلع العباءة وأفرغ على نفسه زجاجة كبيرة من الكولونيا، مدلكاً جسده كله بكلتا يديه حتى شعر بالإنهاك، كان يؤدي طقس نظافته اليومية بقسوة أكثر احتداماً مما اعتاد عليه، محاولاً تطهير جسده وروحه من عشرين سنة من الحروب غير المجدية ومن خيبات الأمل بالسلطة».
وفي ليلة الخامس والعشرين من سبتمبر/ أيلول حينما نجا من مؤامرة اغتياله وجدته لجنة الكونغرس عند الفجر، متدثراً ببطانية صوفية وقدميه في طست ماء ساخن، إنهاكه لم يكن بتأثير الحمى بقدر ما كان من خيبة الأمل، أعلن للجنة أنه لن يحقق في المؤامرة، لن يحاكم أحداً، وأن الكونغرس سيجتمع فوراً لاختيار رئيس آخر للجمهورية مختتماً: «بعد ذلك سأغادر كولومبيا إلى الأبد»، لكن التحقيق جرى، وتمت محاكمة المذنبين بقوانين حديدية، وأعدم أربعة عشر منهم رمياً بالرصاص في الساحة الكبرى، ولم يُعقد اجتماع الكونغرس التأسيسي المقرر إلا بعد مرور ستة عشر شهراً، ولم يتحدث أحد عن الاستقالة، ولم يقابل زائراً أجنبياً أو جليس عارض أو أي صديق عابر إلا وقال له:
- «سأذهب إلى حيث يحبونني».
وكعادة المستبدين ممن يحيطون ذواتهم بهالات وشائعات، يتعرض «ماركيز» للشائعات حول «الجنرال»: «لم تكن الأخبار الشائعة عن مرضه المميت مؤشراً يؤكد أنه سيذهب. فمنذ ست سنوات وهو يقول إنه يموت، لكنه كان يحتفظ دائماً باستعداده الكامل للقيادة، إن الإعلانات المتكررة عن عزمه التخلي عن السلطة ومغادرة البلاد بسبب مرضه، ومظاهر الإجراءات الشكلية المتخذة لم تكن إلا إعادة مبتذلة لمسرحية لم تعد تصدق لكثرة ما شوهدت»!
وتتبعاً لسردية النص فشخصية «الجنرال» تتجاوز مقوماتها وتركيبتها العسكرية، إلى الاهتمام والولع بشئون الثقافة والكتابة والشعر، وهي عادة ملازمة لهذه الشخصيات، تبدأ بكتابة مذكراتها الشخصية برغبة ملحة لترك آثارها في المستقبل: حمل إليه خادمه «خوسيه بالاثيوس» حبراً وورقاً يكفي لاستيعاب أربعين سنة من التجوال، اتفق مع «فرناندو»، ابن أخيه وكاتبه، ليقدم إليه مساعدته الكتابية... غالباً ما كان خادمه يكرر: «ما يفكر به سيدي، لا يعرفه أحد سوى سيدي». أما في ثنايا الأمتعة التي أعدها خادمه صبيحة يوم الرحيل وترك شئون الحكم، لم يوجد فيها سوى غيارين داخليين مستعملين طويلاً، وقميصين، والسترة العسكرية ذات الصفين من الأزرار المصنوعة من ذهب اتاولبا، وطاقية النوم الحريرية، وقلنسوة حمراء وخف بيتي والجزمة التي يلبسها، وفي صناديق «الخادم» الشخصية وإلى جانب علبة الأدوية وبعض الأشياء، وجد كتابي «العقد الاجتماعي لروسو»، والفن العسكري للجنرال الإيطالي «رايموندو منتيكوشلي»، وهما درتان مكتبيتان، كانا ملكاً «لنابليون بونابرت»، وبطانة المودعين تألفت من أسقف المدينة، وشخصيات بارزة، وموظفين من أعلى المراتب مع زوجاتهم، لكن أحداً لم يعرف بيقين من يرافقه مودَّة أو لحمايته، ومن يرافقه ليتأكدوا أنه راحل حقاً، قال له وزير الحربية والبحرية: ابق، وقم بتضحية أخرى لإنقاذ الوطن. رد عليه:
- «لا يا هيران، لم يعد لي وطن أضحي في سبيله»... كانت النهاية... سيذهب إلى الأبد.
بيد أن «ماركيز» يفاجئنا بمشهد تراجيدي: «برغم من احتياطات الحكومة، التي أمرت بانتقاله عبر شوارع أقل ارتياداً، فقد تمكن من رؤية شتائم مكتوبة على جدران الأديرة، لقد عرف عنه أن اهتمامه بمطالب الشارع لا يقل عن اهتمامه بأخطر شؤون الحكومية، كما يبدي معرفة بمشاكل كل فرد الخاصة أو بحالة تجارته أو معاناته الصحية، كان يترك انطباعاً عند محدثيه ولبرهة بأنهم شركاء في ملذات السلطة، بالطبع «الجنرال» بصفته العسكرية لا يحبذ للهزيمة وجود، وفيما هو تائه مع قواته في الأدغال، أصدر أمره بأكل الخيول، خشية أن يأكل الجنود بعضهم بعضاً، واستناداً لشهادة ضابط فيلق بريطاني: «كان له مظهر محارب جاف وخشن، يعتمر خوذة فارس روسي يحمل راية قراصنة سوداء كتب بالدم فوقها شعار: «الحرية أو الموت». إنها بالطبع الشعارات الكبيرة التي لا يتخلى عنها «الجنرالات» حتى لو قادوا بلادهم إلى الدمار وشعوبهم إلى الهلاك، المأساة التي يكشفها «ماركيز» تكمن في الجيش المحرر الذي كان يخرج من أشنع الهزائم وهو أكثر عظمة، فتتعدى ثقته بنفسه الحدود حين يقول له قائد جيشه: «لم يعد أي شيء في العالم قادراً على تلطيخ أمجادكم، فليقولوا ما يشاؤون، لكن فخامتك ستبقى أعظم الكولومبيين، حتى فيما وراء حدود الكوكب» يرد:
- «لست أشك في ذلك، فقد كان خروجي كافياً لكي تشرق الشمس من جديد».
«الجنرال» قارئاً نهماً في فترات الراحة بين المعارك أو في استراحات الحب، لكنه يقرأ دون نظام ومنهجية، يقرأ في أي وقت كان، بالإضاءة المتوفرة، وهو يمشي تحت الأشجار، أو على صهوة جواده، في عتمة العربات المهتزة فوق الشوارع المرصوفة بالحجارة، أو حين يتأرجح في شبكة النوم ويملي رسالة في الوقت ذاته. لم يتمكن من قراءة ما يملكه من كتب، وحين ينتقل من المدينة، يترك كتبه عهدة عند أصدقائه الثقة، مع أنه لم يعد يعرف عنها شيئاً بالمطلق، ذكره مرة فرنسي مسئول بالمذابح المروعة التي مرت بأوروبا والقتل المأجور في عصر النهضة، ونهب روما وتخريبها، وإفناء سكان المدن بين «موسكو ونوفغورود»، لمجرد الارتياب بوجود مؤامرة ضد حاكمها، رد «الجنرال»:
- «لا نريد منكم إحساناً بالقول لنا ما علينا عمله، لا تحاولوا تعليمنا ما يجب أن نكون، لا تسعوا لجعلنا مثلكم، لا تنتظروا منا أن نحقق خلال عشرين سنة بشكل جيد ما حققتموه بشكل سيئ خلال ألفي سنة»، «يا للعنة! نرجوكم دعونا نعيش عصرنا الوسيط بهدوء».
ثمة مفارقة نشهدها في سرد «ماركيز» حول «الجنرال» تتمثل في التقاطع بين الحسي الإنساني والمتسلط المستبد، بين السلوك السوي ونقيضه، ففي تأملاته ولحظات تفكيره وبينما هو ساهم في المطر ومضه الانتظار دون معرفة ماذا ينتظر ومن ينتظر ولماذا ينتظر... لامس القاع: بكي وهو نائم، حين سمع خادمه «بالاثيوس» الأنين الخافت ظنه أنين كلب مشرد التقطوه من النهر، لكنه كان صادراً عن سيده. فـ «الجنرال» رفض حضور تنفيذ الإعدام الذي اتخذه بحق الجنرال «مانويل بيار» ذي 35 عاماً ومن شاركوا في النضال ضد الأسبان وحرض الزنوج والخلاسين وبؤساء البلاد ضد الارستقراطية المجسدة في «الجنرال»، أدين واتهم بالخيانة والانشقاق والتمرد وجرد من ألقابه العسكرية وأصدر فيه حكم الإعدام بعد محاكمة صورية العام 1817.الجنرال لم يحضر تنفيذ الإعدام، بقى وحيداً مع خادمه، وهو يجاهد كبح دموعه وقت سماع إطلاق الرصاص، كتب بياناً موجهاً للقوات: «كان يوم أمس يوماً مؤلماً لقلبي»! وسيردد طوال حياته:
- «إنها ضرورة سياسية أنقذت البلاد وأوقفت المتمردين وحالت دون وقوع حرب أهلية».
الخاتمة والِمرَاد، كان هذا العمل السلطوي الأكثر شراسة، إذ رسخ سلطته ووحد القيادة وفتح الطريق لأمجاده. مات الجنرال «سيمون بوليفار» في مزرعة «سان بيدرو اليخاندرينو»محاطاً بالقليل من الأصدقاء، وحين ألح عليه الطبيب الاعتراف وتلقي الزاد الأخير: قال «بوليفار»:
- «ما هذا؟... هل حالتي سيئة إلى حد يستدعي الوصية والاعتراف؟... كيف سأخرج من هذه المتاهة!»
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 3350 - الثلثاء 08 نوفمبر 2011م الموافق 12 ذي الحجة 1432هـ