يحتل المكان في هذه الرواية مساحة واسعة واشتغالاً واضحاً على المفارقة المكانية بين البلد الواحد واختلاف مدنه كجدّة والرياض أو بين بيئتين مختلفتين إحداهما في الشرق وأخرى تقبع في الغرب السعودية وبورتلاند، وقد أجاد إبراز المعالم والوصف بما يتناسب مع المشهد الداعم للأحداث، الشيء الملفت أن ثمّة قسوة مفرطة على الرياض، ويصّر العلوان على أن يخرج كل أبطاله من أرضها.
« تحتاج الحياة في الرياض أحياناً إلى حوادث ومستشفيات حتى تنكشف مشاعر الذي يحيطون بنا».
«بعد ذلك تعود إلى لندن حيث تعيش وأعود إلى الرياض حيث أموت».
«عندما أطفأت شمعة السادسة والأربعين شعرت بأن الرياض مملة ومتربة وليس لديها ما تمنحني إياه».
أبطال الأربعين
الملفت في رواية «القندس» هو ترجُّل البطل عن صهوة العشرين ليتربع على قارعة الأربعين، التركيز على هذه الفئة العمرية جاء بذكاء ملفت؛ إذ استطاع العلوان أن يدخلنا إلى عوالم هذه المرحلة عبر طريقين، الأول يمر جسدياً بحيث اختار بعض الأمراض التي تتناسب وهذه المرحلة العمرية كمرض القولون عند غالب وألم الظهر عند غادة ومن طريق آخر ركّز على البعد النفسي والأحاسيس الأكثر وعياً في هذه المرحلة.
«لا يهم. لا يوجد آباء وأمهات لمن تجاوزوا الأربعين مثلي. وجودهم في هذه المرحلة من العمر يصبح تذكاراً وسخيفاً».
«الآن تصفّنا الأربعون على رف غابر مثل طقم قديم من العشاق.لم نعد نصلح لشيء باستثناء تمرير النصائح التافهة وتدبير اللقاءات المتثاقلة».
«أنا الرجل الذي عمره ست وأربعون سنة وفي ذاكرتي حكايات ومدن وأشخاص ومتاعب. وقعت في البكاء الذي أوكأته يداي ونفخه فمي».
«الأربعون تغلق باب الاعتياد، وتطرد من مفاصلنا آخر قطرات المرونه».
الحس الساخر
منذ البداية يلحظ القارئ هذا الوميض الساخر والمتسارع وإن خفت فيما بعد وصار يومض بشكل أقل إلا أنه ظل علامة لا يمكن إغفالها.
«آثرت ان أؤجل فضولي حتى أعود إلى شقتي في المساء وأنقب عنه في الإنترنت أو أسأل كونرادو، جاري الفلبيني السمين، لأنه يعرف الكثير عن الحيوانات. ألم يقل إنه كان صياداً قبل أن تخترق ساقه طلقة بندقية خاطئة، فأصبح سباكاً حتى داهمه زوج ضخم وهو يضاجع زوجته في حمامها الذي كان يصلحه، فأصبح سائق تاكسي حتى اعترض موكب رئيس حزب التحالف الفلبيني فحطموا سيارته، فأصبح كهربائياً حتى الآن؟».
«ترهل خداي وعنقي أخيراً مثل عجين اختمرت طويلاً. بعد ذلك جمع حادث السيارة كل تلك الملامح المبعثرة أصلاً وبعثرها مرة أخرى بمعرفته».
«هذا الملعون يتجاهل تمري ويرحل. الكيلوغرام الواحد من هذا التمر الفاخر أغلى ثمناً من لحمه».
«وانتشرت في المحال قمصان بصورته وهو يغمز بعينه، تباع بالسعر الذي يثير حنقي دائماً: تسعة دولارات وتسعة وتسعين سنتاً».
«خرجت على سيارتي وأنا أفكر كيف يتعامل الله مع الدعوات المتتابعة التي يرفعها أبي وأمي عليّ منذ ست وأربعين سنة حتى الآن؟ هل من المعقول أنه لم يتخذ قراره بشأنها حتى الآن؟ أتراه يمهلني.. أم يمهلهما؟».
«منذ وصل أبي إلى الرياض ووجهه معفّر بالدَّين واليتم وهو يشعر بأنها حريق كبير يوشك أن يأخذه. ولذلك ربّانا جميعاً كفرقة إطفاء».
«تخيلت أنها إذا استطاعت أن تخلع حذاءها بعد عشر دقائق فقط في شقتي فقد تخلع زوجها إذا أقامت هنا أكثر من أسبوع».
الحكمة
كعادته يمرر لنا العلوان الكثير من الحكم في العبارات التي لا يمكن أن تمر دون أن تجرح ذاكرتك فتقف تتأمل نزفك، لم يحدد حكيماً بل جعل الحكمة تخرج من كل الشخصيات بشكل عفوي كل بحسب بيئته وثقافته.
«لا شيء يجيء متأخراً إلا عللته الأقدار بأسباب حكيمة».
«من الممكن أن نتحمل مواربة الأبواب غير المحكمة ولكن من الصعب جداً أن تعيش تحت سقف مثقوب».
«القطارات لا تعود للوراء».
«دائماً هناك امرأة كافية لبعض الوقت».
«الحب شيء والنضال من أجله شيء آخر».
«إذا أردنا أن نخنق حباً قديماً، فعلينا أن نسخر منه باستمرار!».
«المسنّون الذين بلغوا من الوهن مبلغه مثلي لا يحسدون يا ولدي، إنهم يتحسّرون فقط. ولتكتشف أنت وحدك يا ولدي أن بين الحسد والحسرة دائماً زقاقاً موغلاً في اليأس».
«الأردية الأكثر بياضاً أسرع اتساخاً».
«ما يُسمع مهما كان ثميناً يظل أقل بكثير مما ُيرى».
لغة السرد
يصعب أن تفلت من لغة علوان السردية بدءاً من روايته «سقف الكفاية» مروراً بـ «صوفياً» و»طوق الطهارة» متوقفاً عند «القندس» هذه اللغة هي مفتاح صبر القارئ على هذا الروائي الجميل، على رغم أن السرد لأحداث الجد والأب أخذت الكثير من المساحة التي كان يتطلع لها القارئ لتضاف إلى حكاية العاشقين، أيضاً شخصية «ثابت» تماهت كثيراً مع البطل الراوي فصار لسانه وثقافته ويمكن تحديد هذه الفجوة بمقارنة بيئة ثابت التي لم تخرج عن ثقافة الأب والأم والعمة فاطمة والأخت بدرية، في حين أن هذه الشخصيات لها صوتها المنفرد لا نجد لثابت صوته الخاص إلا في كلمة «يا ولدي» على رغم احتلاله لأكثر من 4 فصول من الرواية.
النضج
في هذه الرواية يتضح جلياً النضج الأدبي والمعرفي لدى حسن علوان.
فأنت تجد خليطاً من الروايات تمر عليك وأنت تقرأ «القندس»، أهمها رواية «حين تركنا الجسر»* وتجد ذاك الرابط حين كان بطل الرواية زكي نداوة مع كلبه وردان ينتظر بزوغ البطة الخرافية، كذلك نجد غالب ينتظر «القندس» بذاك الترقب والشغف والوصف الآخذ في الدهشة، ذاك الإيغال في الشخصيات ومحاولة الوصول بكل شخصية لنهاية مرضية قدر الإمكان، التنوع في الأعمار والأمكنة والجنسيات (باسل السوري ، زكي المصري، شفيق الباكستاني، الخدم الإندونسيات، مخلص الحلاق) في محاولة واضحة لطرح قضايا شائكة كالكفالة والعمالة دون التكلف أو زج أحداث طارئة تكون ناتئة في جدار الحبكة. أستطاع أيضاًَ علوان أن يهرب بطريقة سلسة من مأزق التورط في تواريخ بعينها فاتبع تقنية فلاش باك ثم أخذ يتنقل في الأزمنة دون وضع الكثير من العلامة باستثناء مرحلة ما بعد حرب الخليج ولأن الأحداث اختلفت أزمنتها يصعب تحديد العمر للأبطال لولا ذكر ذلك بوضوح «ست وأربعين سنة» هي ما يمكن توزيع الأحداث عليها. نستطيع أن نرى هذا النضج على رغم أننا مع روائي لم يتخل عن صناعة كل أبطاله في مصانع الرياض ولم يتخل عن ذريعته الأثيرة وهي الأبطال الذين ينتظرون تركة آبائهم والأبناء المتمردين والعلاقات التي لا يمكن لها أن تكتمل ما شفع لهذا النضج أن يومض هو تخطي بطل العشرين للأربعين وتكثيف السرد من حيث الأماكن والأزمنة والشخوص.
ماذا بعد «القندس»؟
أتمنى أن يستريح العلوان قليلاً، الفترات المتقاربة لا تعطي متسعاً لنضج أكبر وأشمل وأوسع، نضج في طرح ما بعد الحب؟ قضايا أكثر الحاحاً تعطي للكتابة حيّزاً أكبر في الحركة والتجريب، أربع روايات عشقية والإصرار على بوتقة الحب والذات تستحق من العلوان التفكير بالقادم على مهل، ولنكن أكثر صدقاً كنا ننتظر شيئاً أكثر اختلافاً وأعمق فكراً وهو ما يتمتع به محمد حسن علوان ولذلك ننتظر بفرح ويقين
إقرأ أيضا لـ "عبدالعزيز الموسوي"العدد 3341 - الأحد 30 أكتوبر 2011م الموافق 03 ذي الحجة 1432هـ