بمراجعة الهيكل الوظيفي والمهام التي كان يقوم بها المستشار السابق (تشارلز بلغريف) في البحرين بين أعوام 1926 حتى 1957، يتضح التالي: أنه كان مسئولاً بشكل مباشر عن (الزراعة - البلدية - التعليم - الخدمات الطبية وتشمل أطباء الأسنان، العيادات، مكافحة الملاريا - دائرة الكهرباء - الجمارك - مصلحة الأراضي - دائرة النواطير - النفط - الغاز - الإشغال العامة - إسالة المياه - تراخيص البناء - المحاكم الكبرى والصغرى ومعها الأوقاف السنية، الأوقاف الشيعية - والشرع)، فكيف يستطيع أي إنسان أن يقوم بكل هذه الأعمال بمساعدة فقط موظف مساعد في الشئون المالية ومراجع مستقل، وبعض الكتبة حتى ولو كان عبقري زمانه؟ ثم نجده بعد ذلك يستغرب لماذا ثار أهل البحرين، بكل ألوان الطيف البحريني، ضد سياسته كما حدث في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
ولسنا هنا بصدد تقييم مرحلة هذا المستشار رغم كونها أهم مفاصل تاريخ البحرين الحديث الذي مازلنا نعاني من تبعاته وما تركه من إرث ليس طيباً في طرق وأساليب التعامل مع القوى الوطنية التي طالبت بالإصلاح منذ ذاك الزمان. ولكن ما نود الوقوف عنده في تتبعنا لسيرة (بلغريف) المليئة بالغرائب والعجائب هي الحكاية التالية ذات العبرة والمعنى وإن كنا نختلف أو نتفق مع كل أو بعض ما قام به المستشار في وقته ضمن مهامه الإدارية والسياسية في البحرين.
فقد ذكر (بلغريف) في يومياته التي كان يكتب فيها أدق أو أتفه الأمور التي يصادفها في يومه منذ الصباح الباكر حتى يخلد إلى النوم في المساء، فيسجلها كملاحظات لكونه مغرماً بالتاريخ وهو محامٍ في الأساس. ففي الخامس من مايو/ أيار 1929 يقول (بلغريف) وصله خبر بأن هناك حمارين من حمير كبار القوم قد قُتلا في عالي ولم يعترف أحد بهوية الشخص المتسبب في إزهاق روحي الحمارين البريئين. فاستشاط المستشار غضباً وأرعد وأزبد بسبب عدم احترام حقوق الحمير في البحرين كما هي في بريطانيا. ولم يهدأ له جفن لمدة ستة أيام بلياليها حزناً على الحمارين المذبوحين ظلماً وعدواناً على أرض دلمون الطهور. فقرر (بلغريف) في يوم 11 مايو 1929 القيام بحملة تمشيط أمنية لمصادرة كل الحمير المقيمة في قرية عالي، كما أشار إلى ذلك. وبالطبع هذا سبب مشاكل كثيرة للناس آنذاك باعتبار أن وسيلة الموصلات الرئيسية في البلد كانت تلك الحمير الأصيلة. أضف إلى ذلك، أنها، أي الحمير، كانت تخدم الكثير من السكان للتنقل ورعاية مصالحهم الحياتية اليومية في الزراعة والأسواق وغيرها. وتشدد (بلغريف) أكثر في تعاطفه مع الحمير المقتولة وعقاباً للأهالي، فقرر ألا يعيد الحمير المعتقلة إلا بعد دفع ضريبة تعويض عن الحمارين المقتولين غدراً في ليلة ظلماء اُفتقدت فيها تلك الحمير المسكينة بلا ذنب جنته سوى أنها حمير تعود لبعض علية القوم. كما ذكر (بلغريف) في موضع آخر من يومياته، أن الحمير (السايبة: أي التي ليس لها والٍ مسئول عنها) وهي تابعة لأولاد الفقراء وليس علية القوم، لم يعد أحد يهتم بها إذا زاد الفقر عند الناس فتركوها تسرح وتمرح في كل مكان. والحمار يبقي حماراً، كما يقال، فلم تفرق تلك الحمير (السايبة) بين أملاك الفقراء أو علية القوم فسرحت ومرحت قرب بيوتهم وأسواقهم ومزارعهم وأرعبت أطفالهم كما يبدو.
فاشتكي الكبار لـ (بلغريف) فقام من جانبه مع تطبيق مبدأه في احترام الحمار قبل الإنسان، بإلقاء القبض على تلك الحمير (السايبة) وإيداعها (زرايب) البلدية باعتباره هو المسئول شخصياً عن كل ما يخص البلدية بشرياً وحيوانياً. أضف إلى ذلك عطفه أيضاً على حمير أخرى كانت تصاب بأمراض حيوانية مختلفة، وخصوصاً مرض الجرب، فلا يستطيع صاحبها الاهتمام بها بسبب ضيق ذات اليد فيتخلى عنها في الطرقات كذلك، فتصبح بلا إعالة من ولي أمرها. ومع كل هذا التقدير والرعاية والاهتمام الخاص جداً الذي أولاه (بلغريف) للحمير؛ عاد واشتكى في موضع آخر بأن لا أحد راجعه حول تلك الحمير (السايبة) لاسترجاعها لأنها صارت تكلف موازنة الحكومة مبالغ لا بأس بها لعلف الحمير وشرب الحمير والعناية الطبية بالحمير!
فاحتار ماذا يفعل بها، ومع أنها تكلف الحكومة مبالغ غير مسترجعة للموازنة؛ إلا أنه لم يعدمها وبقي محافظاً عليها وعلى سلامة بدنها... وبينما كنت أنهي هذه المقالة وأنا مستند على كرسي في مقهى شعبي، سمعت أحد كبار السن في طرف المقهى يقول بينه وبين نفسه بصوت مسموع: «رحم الله أيام الصاحب بلغريف»
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3339 - الجمعة 28 أكتوبر 2011م الموافق 01 ذي الحجة 1432هـ
قرأت المقال كله بلا ملل
شكرًا للعظات البلييغة أستاذنا العزيز.. بليغ جدا كما قال التعليق 1
ممتع حديثك عن الحمير الرموز.. صودرت حميرنا بالأمس واليوم، وقمع أهل عالي الأمس واليوم.. ولكن ذلك سيكلف بلغريف كثيرا جدا جدا
هههههههههههه
نيرون
حتى ترحمنا على نيرون
مقال ابلغ من بليغ
الحمير والحيوانات وحتى الحشرات لها حقوق عند هؤلاء ولكن الانسان الذي كرمه الله فحقوقه مسلوبة ومنهوبة
ويمكن التغاضي عنها
فها هم يغمضون عيونهم عن كثير من حقوق الانسان في كثير من البلدان رغم معرفتهم ويقينهم بانتقاص هذه الحقوق بل واهانتها
هؤلاء لديهم معايير غريبة جدا
حقوق حيوانات يجب المطالبة بها وحمايتها
وحقوق انسان يمكن السكوت عنها واهمالها