يُعد جمال الدين الأفغاني أحد أكثر الشخصيات جدلا في التاريخ الإسلامي الحديث، فقد كان ذا ولاءات متعددة توزعت بين قصور الحكم في مصر وتركيا وبلاد فارس، وأكد بعض الباحثين الذين استضافتهم قناة الجزيرة في برنامج وثائقي حوله أنه كان ماسونياً. وعلى رغم ما يقال عنه إلا أن دوره كان بارزا في إثارة النعرة القومية في الوطن العربي ضد الاحتلال الإنجليزي، وكان نشاطه السياسي في مصر هو الشرارة التي أشعلت فتيل ثورة عرابي. لقد كان جمال الدين يستخدم الدين لضرب خصومه ولحصد مكاسب ونفوذ سياسي في البلد الذي ينزل فيه، ثم جاء تلميذه محمد عبده وعكس المعادلة، فصار يستخدم السياسية للإصلاح الديني. فلقد حاول توظيف قربه من الخديوي إسماعيل، كما يذكر محمد عابد الجابري، لإصلاح مناهج الأزهر، وعندما ثار عليه علماء الأزهر تقرب من الحاكم الإنجليزي في مصر (كرومر) ليأمن غدر الخديوي ففقد صدقيته عند الوطنيين وعلماء الأزهر والخديوي معا.
يخبرنا التاريخ بأن توظيف الدين للأغراض السياسية والعكس لا يمكنه أن يعود بالنفع على الأمة، فالدين إطارٌ أخلاقي عام نزل من الله بضوابط وأحكام معينة، والسياسة قوانين وممارسات بشرية وضعها الإنسان لتنظيم إدارة الدولة، ولكننا في العالم الإسلامي نميل كثيرا إلى الخوف من فصلهما عن بعض خشية أن تقع السياسة في الحرام، أو يضعف تأثير الدين في المجتمع إذا ما فقد الدعم السياسي، ولكن الواقع اليوم يقول غير ذلك.
فالمنطقة العربية تعاني من سيطرة رجال السياسة على الدين حتى تم تسطيح تعاليمه في كثير من الأحيان واقتصارها على أحكام العبادات، كالصلاة والطهارة وغيرها، وهو ما نجده في البرامج التلفزيونية وعلى منابر الجمع، حيث صار الناس مهووسين بالفتوى وبتفسير الأحلام، وفقد الدين، لدى كثير من الناس، بعده الفكري والتنموي، والروحي أيضا. ولم يقتصر ذلك الانحسار على مستوى الأفراد في المجتمع الإسلامي، بل على مستوى القيادات الإسلاموية أيضا. وأعني بلفظ «إسلاموية» أي التي لا تستخدم الدين كمعتقد فقط، ولكنها توظفه كأيديولوجيا تستخدمها في العمل السياسي.
فقبل أيام أكد رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبدالجليل أن ليبيا ستبطل كل القوانين التي تُعارض الشريعة كقانون منع تعدد الزوجات، وستمنع الربا. وقبله قال رئيس حزب النهضة الإسلامي بتونس، راشد الغنوشي، إنهم لن يمنعوا النساء من لبس البكيني، ولن يحظروا الخمور أو يغلقوا الشواطئ المختلطة، وكنت أتمنى لو سمعنا من رجال فضلاء كهؤلاء حديثا أكثر جدية بشأن المستقبل الاقتصادي والسياسي لبلادهم، فليس من الإنصاف أن تُختَزَل الشريعة في تعدد الزوجات وفي المعاملات الربوية، وليس من الحكمة أن تُقَزَّم الحُريات لتصل إلى شرب الخمور ولبس البكيني!
إن تطبيق الشريعة في الدول الإسلامية هو عامل مهم لاستقرار أفرادها، فعندما استتب الحكم لأردوغان فتح التكايا الصوفية، مثلما فعل صلاح الدين عندما افتتح أول (خانقاه = تكية) في العام 560هـ بعد زوال عهد الفاطميين في مصر، وذلك لإيمانهما بأهمية تعزيز دور الدين في المجتمع، بغض النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع المذاهب الصوفية. ولكن يبدو أن الجماعات الإسلاموية اليوم لم تعد تعرف ماذا تريد من الدين أو كيف توظفه بالطريقة «الأنسب» لها.
نفهم أن الحركات الإسلاموية تحتاج اليوم إلى إعادة إنتاج كثير من موادها الفكرية، وتبحث عن أدوات عصرية لتخاطب بها العالم وتطمئنه بأنها ليست نسخة أخرى من «القاعدة»، ولكن المرحلة المقبلة لا تحتاج إلى من يشعل الثورات وينزل إلى الشوارع، فذلك عهد مضى وقد أبلت فيه بلاء حسنا، أما الآن فإنها تحتاج إلى اقتصاديين وخبراء في التعليم والصحة والبنية التحتية والتكنولوجيا وغيرهم من الاختصاصيين، ولا نكاد نجد من الإسلامويين من يتحدث بلغة الأرقام، ولا أعني هنا أرقام البطالة وعجز الموازنات، فتلك أرقام موجودة ومعروفة منذ زمن، ولكن أعني أرقاما كالناتج المحلي الإجمالي الذي يسعون للوصول إليه في السنوات الخمس المقبلة.
لا أفهم لماذا قدم راشد الغنوشي حرية لبس البكيني على حرية التعبير والصحافة، ولماذا قدم مصطفى عبدالجليل تعدد الزوجات على تعدد مصادر الدخل للمواطن الليبي، وكأننا نعيش حقبة «سلفية» تعيد تصدير قضايا المرأة على أنها لب الدين الإسلامي ومُشكلة المشاكل الحضارية.
أحترم كلا الرجلين وأقدّر دورهما في الكفاح لتحرير بلادهما، ولكن على العواطف ألا تنسينا أننا مقبلون على بناء دول حديثة، على روادها وقادتها أن يُدركوا أن العالم من حولهم مُقبلٌ على أزمة اقتصادية ومالية عميقة، وسيحتاجون للتعامل معها إلى رجال اقتصاد وليس رجال دين؛ لكي يتمكنوا من وضع حجر أساس متين لبنائهم القادم.
إن إعادة تكريس دور الأفغاني واستخدام الدين في «الإصلاح» السياسي، لن تُرضي تطلعات الشباب الذين حرروا أوطانهم، والذين يشكلون الغالبية المؤثرة في بلدانهم، فالبرامج الانتخابية العاطفية والخطابات المليئة بالشعارات الرنانة سيزول مفعولها بعد أشهر، ولئن كان مِنَ الاستعجال أن نحكم على مدى نجاح هذه الجماعات في إدارة أوطانها من فشلها، فإن الأكثر عجلة من ذلك أن يكونوا حريصين على عُري الناس أكثر من حرصهم على كسوتهم
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 3339 - الجمعة 28 أكتوبر 2011م الموافق 01 ذي الحجة 1432هـ