لقد اصطفى الله سبحانه وتعالى زهير جمعة منديل إلى جواره ونعم الاصطفاء ونعم الجوار. لم يمت زهير بل سافر إلى مكان بعيد إلى عليين ليعيش في ظل رحمة ربه فهنيئا له بهذا الجوار وهذه الرحمة.
عرفت زهير كدبلوماسي شاب منذ مطلع التسعينيات حيث كان منتظما في حضوره لاجتماعات جامعة الدول العربية بالقاهرة ممثلا لوطنه البحرين مع السفير مصطفى كما متعه الله بالصحة والعافية وأحيانا كثيرة كان يحضر بمفرده الاجتماعات الكثيرة في إطار العمل العربي المشترك ولمست فيه هدوءا ورزانة رغم صغر سنه وكفاءة وحنكة رغم حداثة عمله الدبلوماسي، وبعد سنين مرت وشاء الله أن احضر للبحرين فوجدته مديرا للإدارة العربية وهي من الإدارات المهمة بالوزارة باعتبار الدائرة العربية هي الدائرة الثانية بالعمل الدبلوماسي البحريني بعد الدائرة الخليجية.
وعندما كنت أزوره بمكتبه أجد فيه الروح الشابة نفسها المتسمة بالهدوء والعقلانية والرزانة والمليئة بالمعرفة والعلم والإلمام بجوانب عمله بدقة وكان موضع تقدير واحترام ومحبة السفراء العرب في البحرين فهو لديه المعرفة والخبرة ولديه روح التعاون والتجاوب مع من يسأله وهو خير معبر عن سياسة وطنه وبلاده إيمانا وحبا لهذا الوطن وللقيادة الرشيدة ولم يخامرني أدنى شك انه سيكون سفيرا متميزا عند تمثيله لوطنه في أي دولة أجنبية ولذلك عندما علمت بنبأ رحيله المفاجئ كان ذلك بمثابة صدمة ولكن هذه حكمة الله وقدرته وإرادته ولا معقب لها.
من هنا عندما قمت بأداء واجب العزاء وجدت والده وأسرته يتقبلون الأمر بثبات من الله فالمصاب جلل ولكن الله سبحانه وتعالى يلهم الأهل الطيبين الصبر والثبات والرضا بقضاء الله فهو الذي يعطي ويأخذ لحكمة أرادها جل في علاه.
وأخذت في التأمل أثناء وجودي بالعزاء لأجد رسالة مهمة غير مكتوبة في صحف عالمنا الزائل ولكنها واضحة وضوح الشمس في الظهيرة ومرسلة إلى شعب البحرين، إذ توافد على مأتم بن رجب بحرينيون بكثافة كبيرة من السنة والشيعة من المواطنين والوافدين من الأغنياء والفقراء من وزراء سابقين وحاليين من سفراء بحرينيين وعرب من مثقفين وكتاب وصحافيين من مختلف الاتجاهات والتوجهات، فقلت في نفسي إن الرسالة الإلهية واضحة لشعب البحرين انكم أسرة واحدة وعليكم التمسك بهذه المودة والأخوة وعليكم التخلي عن الطموحات غير العقلانية والإيمان بمبدأ الواقعية والعمل يدا واحدة مع قيادتكم الوطنية المخلصة، وتذكرت الحكمة القائلة «إن ما لا يدرك كله لا يترك جله»، «وان العجلة مع الندامة والتأني مع السلامة «، وتذكرت الحكمة التي يعلقها رجال المرور على الشوارع وخاصة في الطرق السريعة في كثير من البلاد مطالبين قائدي المركبات بالتأني حاملين له نداء من اعز ما لديه وهو الأبناء قائلين «يا أبي لا تسرع نحن في انتظارك».
وأعاد ذلك كله لذاكرتي ما اعتقد بأنه من سمات الشخصية البحرينية وكتبت عنها في بعض تحليلاتي وهي الشخصية التي تتميز بدماثة الخلق وهدوء الطباع واعتدال المزاج والمودة والحلم في اشد الأوقات التي تستدعي الغضب والانفعال، وقلت في نفسي إن زهير منديل هو النتاج الطبيعي لهذه الشخصية البحرينية وان الله أراد أن يرسل رسالة بمبعوث دبلوماسي خاص لشعب البحرين بأسره من خلال جموع المعزين لزهير منديل: انكم شعب واحد، عيشوا كما كنتم، ولا تتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، لا تستمعوا لدعاة الفتنة ولا لدعاة البغضاء ولا لأصحاب الأجندات فأنتم شعب واحد كونوا كما انتم، إخوة متحابين في الوطن في ظل قيادتكم الرشيدة التي هي جزء لا يتجزأ من هذا التراب الوطني عبر قرون، والتي هي حريصة على التسامح والاعتدال، كما يتجلى ذلك في قرارات جلالة الملك والتي هي تعبير عن الحب للوطن وللشعب، والحرص على إعادة اللحمة بين صفوفه تعزيزا للإنجازات التي تحققت عبر السنين ومواصلة لمسيرة العطاء، إن هذه القيادة بكل موضوعية وتجرد لا يمكن مقارنتها بغيرها من القيادات في الدول العربية التي تعيش شعوبها مأساة حقيقية.
وقلت في نفسي هذا زهير منديل هو استعادة لروح وحكمة زهير بن أبي سلمي ذلك الشاعر العربي الأصيل صاحب المعلقات التي تفيض حكمة، وانه تجسد عميق الجذور للهوية العربية لشعب البحرين. ومرت علي ذكريات كثيرة في تلك اللحظات في العزاء ولكنها تفيض بمبادئ وحكم، ولعل منها ذلك البيت من الشعر الذي ينطبق اشد الانطباق علي زهير منديل:
لقد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم بين الناس أموات
كان ذلك زهير منديل حيا وميتا محبا لوطنه مخلصا لقيادته مؤمنا بانتمائه العربي الأصيل لذلك توافدت جموع المعزين بعيدا عن المناصب وإنما حبا في الحقيقة وبحثا عنها وإيمانا بها، والحقيقة كما يقال هي ضالة المؤمن ينشدها أينما وجدها (إن شعب البحرين واحد ويجب أن يبقى كذلك وان يعمل على هذا الأساس وان على الجميع العمل بهذه الروح الإيجابية والمزاج المعتدل المتسامح)، وهذه رسالة زهير جمعة المنديل الشاب الدبلوماسي الذي اختاره الله للتضحية بنفسه لنقل هذه الرسالة تعبيرا عن إرادة الله سبحانه وتعالى وحكمته، وتساءلت هل يدرك الجميع هذه الحكمة البالغة وهذه الرسالة الأبدية الخالدة التي نراها في أعلى الجبال الشاهقة وفي قاع البحار العميقة بل وفي أنفسنا تأكيدا لقوله تعالى «وفي أنفسكم أفلا تبصرون» (الذاريات: 21)، وشكرا لزهير على حمله هذه الرسالة ودعوة لشعب البحرين بأسره لقراءتها والتمعن فيها بتدبر وعقلانية بعيدا عن الانفعالات والأهواء والأغراض وهنيئا لأسرته ووالده بهذا الابن البار حيا وميتا
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3337 - الأربعاء 26 أكتوبر 2011م الموافق 28 ذي القعدة 1432هـ
الله يرحمه ويحسن إليه
فجعت أنا الأخر بنبأ وفاة أحد الزملاء الشبان الذين يكبروننى بعدة سنوات فقط .... يعنى 42 عاما وهو أحد الدبلوماسيين المصريين النابهين ..... ووجدت نفسى جالسا أفكر فى نفس الرسالة، وأقول أن الله إصطفاه فى هذه الأيام المباركة ليكرمه .... وليجعله لبنة لكى يقف الجميع معا ويتقبلون العزاء فيه لأنه كان شخصا كريما ومحبوبا لدى الجميع .....