(لم يعد لي إلا..أنا) مجموعة قصصية للأديبة محاسن الحمصي، صدرت عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمَّان، في طبعتها الأولى 2011، في 209 صفحات من القطع المتوسط، تحتوي بين دفتيها عشرين قصة قصيرة وتسع وعشرين قصة في حجم الكف.
العنوان من حيث إنه مدخل للمجموعة، أو هو الشرفة المشرعة للإطلالة على النص، يلخص معظم قصص المجموعة. (لم يعد لي إلا.. أنا) عنوان يعطي صورة واضحة ووافية عن ما يؤرق الساردة، ويشغلها؛ بل هو يلخص وجودها وحيدة غريبة، تعيش عزلتها ونأيها عن الآخرين، فقد تخلى عنها الجميع لسبب أو آخر، وبقيت متوحدة تعلك وجودها الكئيب، وحياتها الباردة، وأيامها التي تتكرر. فكل الأيام واحدة، ولا يكاد يختلف نهار عن ليل، ففي الوحدة والاغتراب تستوي الظلمة والنور، والعتمة والشمس، ولا يبقى إلا عدَّ الساعات الرتيبة المملة، بانتظار جديد قد يأتي، وغالباً لا يأتي!
(لم يعد لي إلا.. أنا) عنوان لا يصلح إلا هو للمجموعة، ويكفي أن تقرأ العنوان لتتعرف على مضمون قصص المجموعة دون أن تقرأها، ولعل القارئ المتبصر يستطيع أن يتخيل ما وراء هذا العنوان، وما يستبطنه من دلالات وإشارات، وعذابات نفسية مهيمنه، وتوحُّد شعوري، ويأس من الآخرين مهما بعدت أو قربت صلاتهم، فقد وقعت المفاصلة، وتأكدت العزلة، وانسحبت الساردة إلى داخلها، فلم يعد ثمة أحد في دائرة الاهتمام، أو لم تعد هي - الساردة - في دائرة اهتمام أحد!
عند قراءة قصص مجموعة (لم يعد لي إلا أنا) تأسرك اللغة الفاتنة، وتغويك العبارة الرشيقة، وتخلب لبك الصورة المعبِّرة، وتدهشك الشاعرية المتدفقة التي توهمك أنك تقرأ شعراً لا قصصاً، وهو وهم أقرب إلى الحقيقة!
نجحت القاصة في كتابة قصص على سوية فنية عالية، وعاطفة متدفقة، ومعاناة حقيقية، وكل ذلك بحرفية واتقان، يجعلك تتلهف لإكمال قراءة القصة حتى النهاية، مع ما في ذلك من متعة ونشوة فنية وغواية لغوية. وأرغمتنا أن نتعاطف مع بطلة/بطلات قصصها، ونشعر بتلك الحميمية الآسرة كأننا نقرأ عن أخت أو قريبة وقعت ضحية ظروف قاهرة، ولكننا في الوقت نفسه وددنا أنها كانت أقوى من ذلك، وأن تتحدَّى واقعها المر الأليم، وأن تكون شرسة عند اللزوم، وقد فعلت، ولكنها لم تشف الغليل، ولم ترتق لتكون المرأة القوية الفاعلة التي تغير، وتكون صاحبة قرارها على الأقل!
إن أي ترتيب لقصص المجموعة يخضع لقناعات القاصة، لما وراء تلك القناعة من رؤية ورسالة تود إيصالها للقارئ. ومع تقديري التام لجهد القاصة وقناعاتها؛ إلا إنني سمحت لنفسي - كقارئ - أن أعيد ترتيب المجموعة بعد تفكيكها، فخرجت برواية، وقصتين قصيرتين، وست وخمسين قصة قصيرة جداً.
أما الرواية فتتشكل من ثلاث عشرة قصة قصيرة هي: (لم يعد لي إلا..أنا، سماء تنذر بشتاء قاسٍ، رسالة من امرأة، حوار على وتر مقطوع، وكسّرتُ أرجُل الخوف...، مطرب برسم البيع..!!، نصف ساعة...ونصف...!!، ويطول الدوار..!!، على سفر..!!، خطّ الأحلام، رشفة قهوة بطعم الذكريات..!، لوحة على جدار القلب، وبي رغبة في البكاء). وما هذه القصص القصيرة إلا لوحات مختلفة، أو شظايا متفرقة لشخصية نسائية واحدة، هي هي تتكرر في جميع القصص، لتؤلف معاً جانباً من حياة هذه الشخصية، بصراعاتها الداخلية، وآلامها وأحزانها ومخاوفها وعزلتها النفسية، ووحدتها وغربتها، وشعورها المزمن بظلم المجتمع وخاصة من حولها. ويؤكد ذلك الحديث الشريف الذي استشهدت به مرتين: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» دلالة على عظيم فجيعتها فيمن حولها، وانعدام الثقة فيهم.
الرواية المقترحة تتكون من مجموعة من اللوحات (القصص القصيرة)، تشكل في مجموعها رواية ذات شخصية واحدة رئيسة، تتناول جوانب وزوايا متعددة في خبايا تلك الشخصية النسائية ومعاناتها وصراعاتها الداخلية، وحركتها الداخلية النشطة والخارجية المحدودة. وهذه القصص القصيرة لو استبدلت القاصة عناوينها بأرقام لما لمس القارئ أنه ينتقل من قصة إلى قصة أخرى منفصلة؛ بل من حالة إلى حالة، ومن مشهد إلى مشهد. دون أن يلاحظ أي تقطيع أو خلل أو بعد عن جوهر الرواية المقطعة.
فمن امرأة تخاطب أباها في قبره إذا جنى عليها وهي في كنفه، وأكمل زوجها المهمة، حيث تركها أبوها بعد أن زوجها مراهقة، وتركها زوجها منتحراً، وبقيت وحيدة تصارع قدرها لا طفل يؤنسها، ولا خبرة في الحياة تسعفها، ولا شهادة علمية تساعدها. ففقدت البوصلة والاتجاهات. ولكنها - لحظة يقظة - خلعت ماضيها وعادت إلى الحياة من جديد. إلى امرأة تودِّع زوجها على أمل أن يعود قريباً ولكن الحياة والعمل يأخذه بعيداً، وتقل اتصالاته تدريجياً وتتباعد. وفي لوحة أخرى تفترسها الوحدة والغربة ويأخذها التيه بعيداً في دروب الحياة. أو هي المرأة الضعيفة التابعة إلى الرجل التي تخلص له الحب ولا تجد منه إلا الجحود والتردد. ويخدِّرها الانتظار ووعود لا تتحقق. وتصطدم بمطرب طاووسي ذي وجهين: وجه منمق للاعلام ووجه حقيقي قذر، يحسب أن كل شيء له ثمن وقابل للشراء وخاصة النساء، اللواتي يظن أنهن على استعداد للارتماء تحت قدميه عند أقل إشارة منه. إلى معاناة زوجة من إهمال زوجها وحاجتها إلى الحنان والاهتمام، وتقع لفرط طيبتها ضحية الكلام المعسول ومن ثم الخيانات؛ ما يجعلها فريسة للاستغلال والاقتناص؛ لأن المرأة عند البعض وخاصة ممن أعماهم المال هي مشروع فريسة أو مشروع رخيصة. وعندما تفقد المرأة ثقتها بمن حولها فإنها تلجأ إلى الذكريات الجميلة كتعويض عن النقيض المتمثل في الواقع المؤلم. وحتى أقاربها لا يتورعون في بلاد الغربة عن استغلالها وهي المطلقة أو الأرملة والضيفة دون مراعاة لمشاعرها وأحاسيسها وكيانها، فقد استغلوا طيبتها وحبها لهم، وهي التي تأبى عليها طبيعتها أن تقول لا. وتلجأ للحوار الداخلي في محاولة لايهام النفس بما ترغبه وتحبه.
أما القصتان القصيرتان فهما: قصة (من جيب قلبي..لك وردة!!)، وقصة (على قلقٍ كأنّ الريح تحتي). حيث تتناول القصة الأولى لقاءً عابراً بين رجل تشظى وفتاة على سفر، تحول إلى علاقة إعجاب وحب عن بعد، نجح في تغيير الرجل ولملمة شظاياه المتناثره. ومن أقدر من المرأة على جمع الشظايا الرجل وإعادتها إلى طبيعتها الأولى أو أجمل؟ وهي كذلك قادرة على تحويله إلى شظايا ونتف وذرات تتطاير هباءً في كل مكان؟!
في حين تعرض قصة (على قلقٍ كأنّ الريح تحتي) معاناة كاتب يضطر أن يطبع كتابه على نفقته الخاصة، ويقوم بالتجوال لتسويقه وبيعه، كأي متسول يستجدي الناس ليشتروا منه. وهي قصة تتناول قضية في غاية الأهمية، تؤرق كل كاتب ليس له ظهر أو واسطة.
بالإضافة إلى تسع وعشرين قصة بحجم الكف (قصيرة جداً)، فإننا نستطيع أن نضيف إليها دون عناء 27 قصة متضمنة تحت العناوين الآتية: (من وحي الأخبار، مشاهد من عرس الدم، الصعود العكسي، نهايات، من وحي جلسات بوح نسائية)؛ إذ إن كل عنوان منها يتوج باقة من القصص القصيرة جداً، التي يمكن تفكيكها دون أن تفقد قيمتها أو الغاية منها.
(قصص بحجم الكف)، اختيار متعمد وذكي من الكاتبة، فقد كان بإمكانها أن تصفها بالقصص القصيرة جداً، أو أقاصيص، أو أقصوصات، أو ومضات قصصية، أو برقيات قصصية، ولكنها آثرت أن تختار توصيف (قصص بحجم الكف) كعنوان موحٍ بأكثر من معنى، فقد تعني قصصاً بحجم صفعة الكف، أو بحجم قبضة الكف. وهو معنى يمكن استخلاصه من مجمل القصص القصيرة جداً، التي تميزت بالتكثيف والشاعرية والمفارقة، وتشعر وأنت تقرأها بأن خلفها روحاً قوية ومتمردة وجسورة على خلاف الروح التي نجدها خلف القصص القصيرة في المجموعة نفسها. ولعل طبيعة القصة القصيرة جداً تتطلب أن تكون علامة فارقة، أو لحظة فاصلة، أو موقف واضح حاسم، أو مفاجأة لم تكن في الحسبان. ومن هنا نستطيع أن نحكم ببراعة القاصة التي قدمت مجموعة متميزة ناضجة وممتعة من القصص القصيرة جداً، التي امتلكت كل مقومات هذه القصة وجمالياتها وخصائصها، والتي تحتاج إلى مقالة منفصلة خاصة بها
إقرأ أيضا لـ "موسى أبورياش"العدد 3334 - الأحد 23 أكتوبر 2011م الموافق 25 ذي القعدة 1432هـ